IMLebanon

موسكو ومنهجية القوة

بعد شهر على التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا٬ لم تفلح الغارات التي يشنها سلاح الجو الروسي في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الروسية المزعومة في سوريا ضد من تصفهم موسكو بالإرهابيين٬ فقد أدت هذه الغارات حتى الآن إلى مقتل أكثر من 1400 مدني سوري٬ وكانت في معظمها ضد مواقع الجيش السوري الحر٬ وازدادت وتيرتها بالتزامن مع انعقاد اجتماع فيينا الأسبوع الفائت٬ وهي على ما يبدو مستمرة بهذه الوتيرة التصاعدية حتى موعد الجولة الثانية من اجتماعات فيينا.

استطاعت المعارضة السورية ميدانيا استرجاع أغلب المناطق التي خسرتها لصالح قوات الأسد إثر التغطية الجوية الروسية٬ كما استطاع الجيش الحر إفشال أغلب محاولات التقدم التي شنتها الميليشيات الإيرانية على جبهات ريف حلب وريف إدلب٬ إلا أن استمرار القصف الروسي على مواقع المعارضة في حلب وحمص ساعد مقاتلي تنظيم داعش على التقدم فيها٬ فالطيران الروسي اكتفى بقصف المدن والقرى المحررة٬ في مشهد أقرب إلى تسهيل تقدم «داعش»٬ مع استمرار تعرض مناطق المعارضة لحرب تدميرية من أجل إخضاعها٬ على أمل أن يتمكن الأسد والميليشيات الإيرانية من فرض أمر واقع على الأرض٬ يؤسس لعملية سياسية تحدد مسارها موسكو.

فقد بات من الواضح أن الأولوية الروسية في سوريا هي إضعاف المعارضة المعتدلة٬ التي تدافع عن الثورة وتحمل مشروعا سياسيا يعطيها شرعية محلية عربية ودولية٬ وهي غير مستعدة للتخلي عن ثوابتها في ضرورة التغيير الجذري لبنية النظام٬ ومصرة على رحيل الأسد كشرط أساسي لبدء مرحلة انتقالية تنهي الصراع السوري٬ وهو ما لا يتناسب مع أهداف الكرملين الذي بدأ يقترب من تطبيق السيناريو الشيشاني في سوريا. ففي الحرب الشيشانية الثانية٬ تعمدت موسكو إقصاء الأطراف الشيشانية التي لم تتخل عن الحل السلمي للنزاع٬ فقامت بالقضاء على قوات الحكومة الشيشانية المحلية٬ ومن ثم قتلت الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف٬ وعملت على تصفية أغلب القادة والمسؤولين الشيشان الموالين له٬ فيما تركت قائد المتمردين شامل بساييف وجماعاته المسلحة٬ فبالنسبة لموسكو بساييف والجماعات الجهادية المؤيدة له٬ لا تحظى بأي شرعية وطنية رسمية كتلك التي يحظى بها الرئيس مسخادوف٬ ولذلك قامت بالتخلص منه أولا. وعليه لا تختلف الممارسات الروسية في الشيشان عن ممارساتها الحالية في سوريا٬ فـ«داعش» وأخواتها لا تملك شرعية شعبية أو ثورية٬ وهي فصائل لا مكان لها على طاولة الحل٬ لذلك تتجنب موسكو مهاجمتها حاليا٬ ولا ترغب في إضعافها٬ فهذا ليس من صالحها أو صالح حلفائها٬ فـ«داعش» القوية تضمن تعطيل العملية السياسية٬ وهي تشارك النظام والميليشيات الإيرانية في مهاجمة الجيش الحر.

وصفت الأمم المتحدة العاصمة الشيشانية غروزني إثر سقوطها بيد الروس٬ بعد معارك استمرت قرابة 4 أشهر٬ بالمدينة الأكثر دمارا على وجه الأرض. حيث استخدمت القوات الروسية كل ما تملك من ترسانة عسكرية ضخمة٬ وهي كفيلة بتدمير أي مدينة تفوق مساحة غروزني أضعافا٬ هذه القسوة المفرطة دفعت سكان غودارميس ثاني أكبر مدينة شيشانية إلى تسليمها دون قتال٬ وهو على الأغلب ما ترغب موسكو في تحقيقه في سوريا٬ حيث تتعمد استخدام القوة الجوية المفرطة في حلب وحمص وإدلب وريف دمشق والغوطتين٬ من أجل دفع السكان إلى النزوح أو الاستسلام٬ وهو ما يشبه عملية إبادة مدروسة وممنهجة٬ مبنية على رؤية عسكرية٬ تعتمد مبدأ تحطيم الخصم وإنهاكه٬ بالاتكال على المبالغة في استخدام القوة٬ بغض النظر عن حجم الخصم٬ وواقع الميدان وموازين القوة.

من علامات الأزمة العميقة التي تتجه إليها روسيا إثر تدخلها في سوريا٬ أنها لا تستطيع إعادة تمكين الأسد والنظام٬ إلا من خلال تحطيم خصومه الحقيقيين٬ وهو من أبعد المستحيلات وغير مسموح به عربيا ودوليا٬ لكن موسكو تحاول استغلال ما تبقى من مهلة دبلوماسية مستقطعة أعطيت في فيينا٬ قبل أن تتحول مغامرتها إلى مقامرة أعباؤها أكبر من مكاسبها