مع سقوط الطائرة السورية ثم الإسرائيلية اهتزت التفاهمات بين المتصارعين الدوليين والإقليميين. لم ترق هذه إلى مستوى اتفاقات عميقة. كانت إلى حد ما نتاج خطة مرحلية نسجتها روسيا لترسيخ أقدامها في سورية. ولم تكن استراتيجية مشتركة تحظى بموافقة أطرافها المعنيين. لذلك لم تتوقف الحرب الدائرة في هذا البلد. حتى «مناطق خفض التوتر» أرادتها موسكو مجرد هدنات موقتة لتعزيز المواقع الميدانية للنظام وترجيح كفته العسكرية، تمهيداً لسوق أطياف المعارضة إلى تسوية سياسية ترسمها هي وحدها من دون أي طرف داخلي أو خارجي. لذلك لم تصمد هذه «الهدنات». ولذلك أيضاً تعثرت وتتعثر كل جولات التفاوض، مثلما تعثر «مؤتمر الحوار الوطني» في سوتشي. فكان طبيعياً تصعيد المواجهة بين جميع المعنيين في الأيام الماضية، كأن الأزمة في بدايتها. ولم يكن أمام هؤلاء سوى التحرك سريعاً لمنع انهيار هذه التفاهمات، أو تغيير قواعد الاشتباك. فليس من مصلحة أحد منهم دفع الوضع إلى شفير الهاوية. وكانت موسكو قبلة القلقين من الانخراط في حرب واسعة مفتوحة. فهي القادرة أكثر من أي طرف على التواصل مع جل المعنيين، من النظام السوري إلى إيران وإسرائيل وتركيا والأردن. وهي الأكثر تضرراً من توسيع رقعة المواجهة لأن ذلك يعرض كل ما بنته منذ تدخلها قبل نحو ثلاث سنوات للضياع. فضلاً عن أنها هي صاحبة هذه الخريطة المتشابكة لمواقع النفوذ. أشرفت على توزيعها على الشركاء والخصوم واستجابت إلى حد ما لمصالحهم الأمنية ولكن… تحت سقف مصلحتها العليا.
رسمت الولايات المتحدة خطوطاً حمراً، بإسقاطها طائرة «السوخوي 25» السورية. لن تسمح لأي من اللاعبين الإقليميين بالتعرض لـ «قوات سورية الديموقراطية» شمال الفرات. وتدعم سياسة إسرائيل وغاراتها ما دام أنها تساهم أيضاً في استراتيجيتها لمواجهة انتشار الجمهورية الإسلامية وميليشياتها في المنطقة. وكان رد روسيا سريعاً. سمحت لمنظومة صواريخ حليفيها بإسقاط طائرة «أف 16» إسرائيلية. رسمت هي الأخرى خطاً أحمر واضحاً. وعادت إلى حماية التفاهمات الهشة ريثما يحين الاتفاق مع الولايات المتحدة. فهي لن تقدم لإسرائيل ولا للنظام أو إيران أبعد مما قدمت. الثمن الكبير من حصة أميركا الدولة الكبرى. لكن هذه الخطوط التي ترسمها الدولتان الكبيرتان حولت سورية نموذجاً للنظام الإقليمي الذي سيقوم في نهاية المطاف على أنقاض ما خلفت وتخلف الحروب الأهلية في عدد من الدول العربية. لذلك لم يقتصر تحرك واشنطن وموسكو على الساحة الشامية بل تعداه إلى العراق واليمن خصوصاً، فضلاً عن ليبيا. هذا «التقسيم» الحالي لمناطق النفوذ في بلاد الشام دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى التحذير من أن سورية مهددة بالانقسام. وهو لم يكشف جديداً في هذا المجال. «التقسيم الميداني» ارتسمت حدوده منذ انخراط إيران ثم روسيا وتركيا والولايات المتحدة ميدانياً، فضلاً عن قوى إقليمية أخرى معروفة. وكذلك حذر المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بدوره من أن التطورات العسكرية الأخيرة «تقوض» الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة. وعبر عن قلق المنظمة الدولية من العملية العسكرية التركية التي رأى أن «لا نهاية لها في الأفق». وكانت الهيئات الأممية المعنية بشؤون المساعدات وحماية المدنيين رفعت الصوت لوقف الهجمة الشرسة على الغوطة الشرقية ومناطق في إدلب.
لم تكتف روسيا بالرد العسكري، طائرة في مقابل طائرة. لكنها رفعت التحدي في وجه خصوم النظام الغربيين الذين يأخذون عليها عدم ممارسة الضغوط اللازمة على دمشق للانخراط جدياً في البحث عن حل سياسي للأزمة. والذين يجهدون لإعادة فتح ملف استخدام النظام السلاح الكيماوي لعل هذا «السيف» يدفعه إلى إعادة النظر في حساباته والتراجع عن وهم الحسم العسكري. وبات واضحاً أن ما قدمته موسكو في سوتشي إلى الأمم المتحدة لإغرائها بانتداب مبعوثها دي ميستورا إلى حضور «مؤتمر الحوار الوطني» وتوفير نوع من مظلة شرعية دولية، سارعت دمشق إلى استعادته. رفضت جهود المنظمة الأممية لتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد لسورية. أي أن النتيجة الأساس التي خرج بها المجتمعون في المنتجع الروسي قضى عليها موقف النظام السوري، علماً أن غالبية من حضروا كانوا من أنصاره أو أتباعه أو تحت عباءته أو العباءة الروسية. وهكذا تعود المفاوضات السياسية إلى نقطة الصفر، بانتظار قرار بتفعيل التفاهم بين موسكو وواشنطن. هذا الموقف السياسي التصعيدي واكب التسخين المحتدم على الأرض، سواء في الغوطة الشرقية للعاصمة أو في إدلب ومناطق أخرى. ما يشي بأن الكرملين يبعث برسالة واضحة رداً على التحرك الدولي الذي تقوده فرنسا والولايات المتحدة لإدانة النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية في المعارك الدائرة اليوم. خطوة في مقابل خطوة. فإذا كان هدف خصوم النظام السوري التحرك لرفع راية تنحيته وإخراجه من اللعبة السياسية، فإن روسيا ترد بالسماح له بوقف العجلة البطيئة سعياً إلى التسوية التي لا تزال تتمسك برسمها على مقاس مصالحها.
هذا التراشق بالمواقف المتشددة عسكرياً وسياسياً بقدر ما يبدو تقليداً قديماً لتحسين المواقع في مسيرة التسوية وضغوطاً متبادلة، وإيذاناً باقتراب الحل، إلا أنه لا يبشر بذلك، خصوصاً أن واشنطن تواصل خطوات المواجهة مع موسكو. كما أن الدولتين الكبريين لا تمتلكان كل أوراق الضغط على الأطراف الإقليمية. قد يؤدي خطأ في التقدير أو حادث غير مقصود إلى حرب واسعة. إسرائيل هددت بأنها لن تتوانى عن تكرار غاراتها على مواقع ومستودعات تشرف عليها إيران. وردت هذه بأنها لن تتراجع عن سياسة المواجهة والإصرار على التقدم نحو الحدود السورية– الإسرائيلية. ربما وجدت الدولة العبرية التي يتعرض رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو لضغوط داخل تكتل ليكود ومشكلات قضائية، والتي قد لا يروق لها بعض التفاصيل في «صفقة» واشنطن للقضية الفلسطينية، مصلحة في شن حرب واسعة تصرف الأنظار بعيداً من أزماتها. وربما وجدت نفسها مرغمة على مواجهة التمدد الإيراني قبل أن يترسخ ويتعمق فيتحول معضلة شائكة يصعب التخلص منها بعد فوات الأوان. وحتى الجمهورية الإسلامية التي تواجه تحديات كبيرة في الداخل وخلافات تتأصل بين القوى والتيارات السياسية للتعامل مع الغضب الشعبي، وتتعرض لهجوم أميركي، على أكثر من جبهة وفي أكثر من ملف، وتمارس أوروبا عليها ضغوطاً لتعديل سياساتها الإقليمية ووقف برنامجها الصاروخي، قد تغامر في الهروب إلى أمام في جبهتي اليمن والجولان وجنوب لبنان.
هذه التعقيدات والتطورات لا تقلق روسيا وحدها التي تخشى أن يطيح تغيير قواعد اللعبة كل ما بنت في سورية حتى الآن، فإن الولايات المتحدة المتمسكة برعاية الكرد وحماية مناطقهم شمال شرقي سورية تخشى أن تقود عملية «غصن الزيتون» التركية إلى مواجهة واسعة سترغمها على حماية «الخط الأحمر» وتعميق خلافاتها مع أنقرة. لذلك بذلت وتبذل جهوداً واسعة لترميم الثقة بينها وبين تركيا. ولا شك في أن المحادثات التي أجراها وزير الخارجية ريكس تيلرسون مع الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره الوزير مولود جاويش أوغلو في تحقيق شيء من التهدئة على جبهة الخلافات الثنائية. إن التوصل إلى تفاهم على نشر قوات مشتركة في منبج والسماح لقوات نظامية سورية بالانتشار في عفرين يحقق مصالح لعدد واسع من الأطراف المعنيين. فمن مصلحة القيادة التركية ترميم الجسور مع واشنطن. يكسبها ذلك شيئاً من القوة حيال شريكيها في لقاءات آستانة. موقفها من التسوية السياسية في سورية أقرب من موقف الدول الغربية التي تنادي برحيل الرئيس بشار الأسد وبتحقيق تغيير حقيقي في النظام السوري. كما أن هذا الترميم يعزز «حصتها» في جارتها الجنوبية ويحد من تغول إيران وروسيا اللتين لم تجد، أيام إدارة الرئيس باراك أوباما، مفراً من التحالف معهما من أجل الحفاظ على ما تراه من مصلحتها الأمنية والسياسية والاقتصادية. كما استعادة الثقة بين واشنطن وأنقرة تساعد في استقرار الحضور العسكري الأميركي شرق الفرات. وحتى الكرد لا يروق لهم أن تعود «مناطقهم» تدريجاً إلى حضن النظام، لأن ذلك يقوض جوهر استراتيجيتهم وحلمهم في حكم ذاتي لئلا نقول في قيام كيان مستقل، علماً أن انتشارهم العسكري الحالي لا يترجم حجمهم الديموغرافي، وسيواجهون مستقبلاً صعوبة في التحكم بمناطق انتشار خارج بيئتهم الاثنية.