تفيد مصادر خاصة ومتقاطعة في دمشق أنّ موسكو اتّخذت قراراً بفتح معركة دير الزور قريباً، ويلاحظ مراقبون ميدانيون أنّ حملة تعزيزات للقوات السورية بدأت خلال الأيام الماضية تحتشد في منطقة مدينة تدمر، وذلك استعداداً لبدء هجوم كبير في اتّجاه الخط الموصِل إلى دير الزور المعقل الثاني لـ»داعش» في سوريا بعد الرقّة.
وفقَ هذه المصادر، بات يمكن الآن معرفة خلفيات بعض الغموض والالتباس الذي شابَ في الأسابيع الأخيرة العلاقة بين موسكو من جهة وكلّ مِن طهران والنظام السوري من جهة أخرى، وكان له تأثيرات سلبية على سلاسةِ التنسيق في الميدان بين محور حلفاء النظام المتمثّل بـ«حزب الله» وطهران والقوات الجوّية الروسية.
لم يعُد خافياً على متابعي كواليس معركة حلب التي توقّفت الآن، ثلاثة أمور مهمّة:
الأمر الأوّل أنّ إيران بالتنسيق مع «حزب الله» وقوى شيعية أُخرى، كانت بدأت الإعداد لمعركة حلب منذ الخريف الماضي، ووقّتَت زمنَ نشوبها في هذا الربيع، وهي استقدمَت لهذه الغاية قوات إضافية من إيران، كان أبرزها «فرقة الصابرين».
الأمر الثاني يتمثّل في أنّ كلّاً مِن طهران ودمشق و»حزب الله» اعتبروا أنّ معركة حلب في حال أسفرَت عن استعادة كلّ أجزاء المدينة إلى حضن النظام، فسيؤدّي ذلك إلى إضعاف المعارضة وحلفائها داخل قاعات مفاوضات جنيف، وسيضرّ بقوّة بورقة النفوذ التركية داخل سوريا، وسيُخرِج مطلب رحيل الرئيس بشّار الأسد من التفاوض، وسيردّ الاعتبار لأهمّية الخيار العسكري الذي لا تؤيّده موسكو إلّا في حدود.
كذلك رأى الإيرانيون أنّ شنَّ معركة حلب وكسبَها سيبقى الاندفاعة العسكرية للنظام التي وفّرها التدخّل الروسي العسكري على زخمها، بينما قطعه عبر إرساء عمليات هدنة، سيطيح بمكاسبها السياسية.
الأمر الثالث الذي بات واضحاً أيضاً أنّ الروس لم يسايروا هجوم حلب، وأكثر من ذلك فإنّ الهمس الإيراني والسوري يحمّلهم مسؤوليّة أنّهم أعاقوه من خلال عدم تقديم غطاء جوّي وسياسي له.
في المقابل، فإنّ الروس وقبَيل بدء معركة حلب كانوا أعطوا الإشارة لدمشق لبدء الهجوم على تدمر. ومعروف أنّ تدمر، في حد ذاتها، ليست مدينة استراتيجية، وتكمن أهمّيتها في أنّها رأس انطلاقة للسيطرة على مناطق حيوية عدة بينها دير الزور والرقة.
بين تنفيذ معركة استعادة تدمر وبدء معركة حلب، ظهرَ واضحاً أنّ حلف طهران ـ موسكو في سوريا هو تقني عسكري أكثر ممّا هو حلف سياسي عميق.
والجديد الذي حصل في تلك الآونة هو أنّه حتى هذا الحلف العسكري التقني، باتت تصيبه أضرار، لأنّ انعكاسات التباين السياسي بينهما باتت لها ترجمة سلبية على أداء حلفاء النظام في أرض الميدان.
جوهر التباين يتعلّق بأنّ إيران ومعها النظام السوري يفضّلان ضربَ المعارضة المسلّحة أوّلاً، وتركَ «داعش» لتكون الحرب عليها المشهد الأخير في الحرب السورية.
ويؤمّن هذا الأمر للنظام فرصة وضعِ الغرب أمام معادلة أمر واقع تفيد أنّ مَن تبقّى من معارضيه في الميدان السوري هم فقط «داعش»، وعليه، على المجتمع الدولي المفاضلة بين النظام بكلّيته (أي مع الأسد) وبين «ابو بكر» البغدادي.
أمّا موسكو فبموجب شراكتها مع إدارة الرئيس باراك اوباما، فهي تلتزم في هذه المرحلة العمل ضد «داعش» حصراً (داعش أوّلاً) وترك المعارضات المسلّحة الأخرى ليتمّ في الوقت المناسب استكمال عملية فرزها بين كتائب معتدلة وأخرى متطرّفة، وهي العملية التي بدأت مع الهدنة الأخيرة ونسَّقتها غرفة حميميم التي أدارَها ضبّاط أميركيون غير ظاهرين وروس، وحضّت كلّ فصائل المعارضة المسلّحة السورية غير المصنّفة إرهابية، على مهاتفتها لتحديد موقفها من الهدنة، معتبرةً أنّ كلّ فصيل يؤيّدها سيصنَّف معتدلاً، ومَن يعارضها سيُعتبر متطرّفاً.
لكنّ سياق هذا الفرز انقطع بعدما تقاطعت مصلحة فصائل المعارضة المسلحة المتطرّفة وعدوّها الايراني عند هدف إسقاط الهدنة لمصلحة شنّ حرب حلب بالنسبة إلى طهران ولمصلحة إنهاء عملية الفرز بالنسبة إلى المسلحين المعترضين على إرساء هدنة لا تتضمّن ضمانات دولية مسبَقة حول رحيل الأسد.
خطة معركة دير الزور
وتؤكّد أحدث المعلومات المتابعة لهذا الملف، أنّ موسكو عادت وكسبَت نزاع الإرادات مع طهران حول الأولويات التي يجب التوجّه للاهتمام بها عسكرياً في هذه المرحلة في الميدان السوري، وانصياعاً للرؤية الروسية على هذا الصعيد، تقرّر البدء بالاستعداد لنقل ثِقل الجهد العسكري للجيش السوري وحلفائه وللغطاء الجوّي الروسي من التركيز على حلب وشمال سوريا، الى التركيز على فتح معركة وسط سوريا انطلاقاً من تدمر في اتّجاه دير الزور كمرحلة أولى، ومن ثمّ في اتّجاه الرقّة كمرحلة ثانية.
والمعروف في هذا السياق أنّ حشد القوى الحليفة للنظام يتمركز حاليّاً في جبهة وسط سوريا في منطقة مدينة تدمر، وسيكون عليها قريباً التقدّم في اتجاه بلدة السخنة ومن ثمّ بلدة كبابجية وقرى أخرى أقلّ شأناً في اتّجاه مدينة دير الزور.
وتقول المعلومات العسكرية إنّ المعركة في هذه القرى الواقعة على الطريق الى دير الزور ستكون سهلة، لكن ما يجعل معركة المدينة عينها معقّدة وتحتاج لخطة إبداعية لتفكيك بعض تعقيداتها العسكرية الصعبة، يتمثّل بمشكلتين:
أوّلاً – إيجاد طريقة تُمكّن القوات الحكومية المهاجمة من إتمام عملية إخراج «داعش» من دير الزور، وذلك من دون أن تعرّض قوّة الجيش السوري المحاصرة في مطارها للإبادة. بكلام آخر تركّز خطة استرجاع دير الزور على طريقة لتجنّب أن يسفر الهجوم عن كارثة في حقّ الجنود السوريين المحاصَرين.
ثانياً – النقاش الآخر الذي يشغل بالَ مخطّطي عملية إخراج «داعش» من دير الزور، ليس عسكرياً، بل سياسياً. فالتقدير العسكري يميل إلى أنّ إمكانية الحسم فيها مضمونة، بغَضّ النظر عن المدّة التي سيستلزمها الهجوم. ويفترض هذا التقدير أنّه سيتكرّر في دير الزور مشهد ما حدث مع المدن الأخرى التي سبق وأخرجَت «داعش» منها، حيث سيتمّ حصارُها وتركُ طريق آمِن لعناصرها لتغادرها.
ولكن السؤال الذي لا يزال يحتاج إلى إجابة شافية ومسبَقة عنه في المعركة المرتقبة، هو سؤال سياسي، ومفاده إلى أيّ منطقة يجب السماح لعناصر «داعش» الهاربين من المدينة أن يغادروا؟
هناك ثلاث إجابات:
الأولى تتحدّث عن تركِ منفذ آمِن لهم يوصلهم إلى منطقة البوكمال والميادين، ولكنّ هذه المنطقة الواقعة داخل سوريا على الحدود مع العراق، تمتاز بأنّها مفتوحة على منطقة الأنبار العراقية حيث ثقلُ حضور «داعش».
وتعتبر بغداد أنّ السماح لـ«داعش» بنقلِ ثقلِها العسكري في دير الزور إلى البوكمال هو إساءة لأمن العراق. وحسب المعلومات فإنّ موسكو تتفهّم الموقف العراقي وتريد مراعاته.
الثانية، تطرَح فتح منفذاً آمناً لـ«داعش» في دير الزور في اتّجاه مثلث الحدود الأردني ـ العراقي ـ السوري عند معبر نصيب. ولكنّ هذا الاقتراح يصطدم مرّةً اخرى بـ«الفيتو» العراقي.
وتبقى إجابة ثالثة هي القابلة للتنفيذ وتتمثّل بتركِ منفذ برّي من دير الزور في اتّجاه منطقة السويداء السورية المفتوحة على منطقة الزرقا الأردنية. ومثلُ هذا الخيار سيثير هواجسَ الأردن والسعودية على السواء.