IMLebanon

موسكو أمام التحدّي: ترشيد قفزاتها فوق أوكرانيا وتركيا

ما كادت وزارة الخارجية التركية تستدعي السفير الروسي في أنقرة اندريه كارلوف احتجاجاً على مشاركة طائرات بلاده في الهجوم الذي يشنّه جيش النظام السوريّ على منطقة جبل التركمان في ريف اللاذقية، وسط تدفق آلاف اللاجئين التركمان باتجاه الإسكندرون، حتى جاء إسقاط المقاتلات التركية الأميركية الصنع لطائرة السوخوي ليتجاوز مسألة التضامنية القومية التركية مع التركمان السوريين، وبالذات لأنه يصيب الغلواء القومية الروسية الراهنة كما لم يصبها أحدٌ من قبل في السنوات الماضية. 

قبل أيام قليلة كان فلاديمير بوتين في انطاليا التركية يخرج الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية عن تهريب النفط من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» الى الداخل التركي. وقبلها بأيام مزيدة كان تفجير الطائرة المدنية الروسية فوق سيناء الذي تبنّاه «داعش» وإن لم يحلّ لغزه بعد. في المقابل، جاءت الغارات الروسية في سوريا، حتى في مرحلة ما بعد هجمات باريس، لتطاول بنك أهداف لا علاقة لأغلبها بمواقع ونقاط حيوية خاصة بـ»داعش»، ولتشمل ما تعتبره تركيا غارات على المدنيين التركمان في جبلهم بريف اللاذقية، ثم جاء إسقاط «السوخوي» بمثابة «إدغام» بين مسألة تتعلّق بسيادة تركيا على أجوائها، وبين بيانها المعلن في حماية الوجود التركماني في سوريا والعراق، وبين استدعائها لآلية يخطئ من يعتبرها منقضية بالانكفاء الأميركي النسبي عن الشرق الأوسط: حلف شمالي الأطلسي التي تنتسب تركيا اليه. بوتين أراد إحراج تركيا «الإسلامية» في انطاليا، وتركيا «التركمانية» في جبل التركمان، فحرّكت تركيا مقاتلاتها الأميركية، وعضويتها الأطلسية. وصحيح أن لا وجه شبه البتة بين تفجير طائرة مدنية فوق سيناء، وبين إسقاط «السوخوي»، لكن من موسكو، انعدام الشبه لا يخفي حصيلة تجمع على بعضها البعض: خسائر ترد من منطقة الشرق الأوسط.

ليس من الشرق الأوسط فقط. الأوضاع في القوقاز الروسي عادت تتحرّك تحت يافطة تنظيم «الدولة الإسلامية» هناك أيضاً. بالأمس كانت الاشتباكات في جمهورية كاباردينو بالكاريا جنوب روسيا، وتحدثت السلطات عن مقتل مجموعة من المقاتلين يتبعون لتنظيم «الدولة» هناك. 

حادثة إسقاط الطائرة بالأمس، على خطورتها، من شأنها الدفع باتجاه بعض الواقعية في تناول الخطط المبتغاة لمحاربة «داعش». فإذا كان الموقف الأوروبي، وتحديداً الفرنسي، يتأثر بالضغط الذي يمارسه اليمين («الجمهوريون» بقيادة ساركوزي) لرفع الحصار الأوروبي عن روسيا، بدعوى أنه لا يمكن الدخول في حلف عريض معها ضد «داعش» وتبادل المعلومات العسكرية والاستخباراتية معها مع استمرار وقف الصادرات في الوقت نفسه، فإن تركيا، وبعدها الرئيس الأميركي باراك أوباما إثر اجتماعه مع فرنسوا هولاند بالأمس، يشددان على أنه لا يمكن أن تضحك روسيا على العالم طول الوقت وتقول إنها تحارب «داعش» فيما هي تحارب فصائل معارضة محاربة من داعش والنظام على حد سواء. بشكل موازٍ، لا يمكن لموسكو تجاوز تركيا. مفارقة الأمس: أنّه في وقت يفكر فيه فلاديمير بوتين في كيفية الرد على الخطوة التركية، فإنّه بات بحاجة فعلية الى التنسيق مع أنقرة في الشأن السوري أكثر من ذي قبل. صحيح أن وزير خارجية روسيا سيلغي زيارته لأنقرة، لكن التنسيق يفرض نفسه أكثر من قبل، وهو ما يعود أيضاً لانعدام المنفعة، بعد انقضاء السكرة الأولى، على تدخل روسيا في سوريا. لا يمكنها أن تحفظ نظام بشار الأسد بمقاتلاتها الجوية طول الوقت، ولا يمكنها أن تتولى الشيء ونقيضه: سحب ملف «العملية السياسية» في سوريا من الأميركيين وتعطيلها بدلاً من تحقيقها. 

الاتفاق على محاربة «داعش» بين الروس والغربيين لم يعد بإمكانه أن يكتفي اذاً بالتبعات المباشرة لهجمات باريس. أمام الروس عقبتان لإنجاز هكذا اتفاق جدياً: حصر الضربات بداعش، والتنسيق مع تركيا، وليس تجاوزها شرقاً، باتجاه إيران، وغرباً، باتجاه فرنسا الجريحة. 

كل هذا وروسيا لا تزال بحاجة الى تهدئة في أوكرانيا لترفع عنها العقوبات الأوروبية والغربية، ولا يمكن أن يعوض التفاهم مع الغربيين حول «داعش» في حال حصوله، ودونه إذاً عقبات، غياب التفاهم حول تطبيق اتفاقية مينسك والتهدئة في أوكرانيا. وحالياً يحدث العكس: بالأمس أيضاً، أوقفت موسكو تصدير الغاز الى أوكرانيا، بعد أيام من انقطاع التيار الكهربائي في شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو من طرف واحد، والذي يأتي من أوكرانيا، حيث تم تفجير خطوط الإمداد السبت الماضي، لتغرق القرم في ظلام دامس باستثناء اللجوء لبعض مولدات الطوارئ. 

لا يمكن القفز فوق أوكرانيا وتركيا لإصلاح العلاقة مع الغرب، وحفظ الغلواء روسياً، انطلاقاً من سوريا نفسها، هذا ناهيك أن موسكو تخوض حربها دفاعاً عن النظام ضد فصائل غير «داعش» في أغلب الوقت. 

لن يذهب العالم الى سباق تصاعد التوتر بعد سقوط السوخوي. هذه ليست لحظة تراجيدية. هي بالأحرى دعوة الى الواقعية. سقوط السوخوي ليس «حدثاً» مزلزلاً الى الدرجة التي يمكن توهمها بعد قليل على ورود خبره. لكنه كحدث «ترشيديّ» يقلّل الى حد كبير من المبالغة في التأسيس على هجمات باريس لتلفيق تحالف روسي غربي كيفما كان. 

فرنسوا هولاند يزور موسكو الخميس. فهل تكون محطة لإفهام الروس بأنّ الغرب والشرق، في آن، في مأزق، حيال.. المسألة السورية؟!