حينما ترأسَ رئيس مجلس النواب نبيه بري اجتماع كتلته النيابية ليُطلعَ أعضاءَها على مبادرته لتقديم اقتراح قانون التبكير بموعد إجراء الانتخابات، أبلغ إليهم في بداية الاجتماع أنّه يعتبره تاريخياً.
ولا يعود إطلاق بري صفة تاريخية على اللقاء، كونه يَشهد طرحَه مبادرة تبكير الانتخابات، بل ايضاً، وفي الاساس لكونه يرى انّ التوقيت الراهن تاريخيّ، حيث إنّ ظروف المنطقة تشهد تحوّلات كبرى، وأنّ المطلوب من لبنان ان يواكبَها داخلياً، وهو يَعتبر انّ خطوة تبكير الانتخابات يُمليها التوقيت الداهم الذي تمرّ به المنطقة.
وبكلام آخر، فإنّ فكرة بري الاساس، تفيد أنّه يجب طيّ ملفّ الانتخابات الذي يشغل الحياة السياسية الداخلية، والتفرّغُ لتحدّيات كبرى ستطرحها على لبنان لا محالة التطوّراتُ المتسارعة في المنطقة.
وربّما ما كشفه ترامب امام الجمعية العمومية للامم المتحدة قبل ايام عن استراتيجيته التي تدعو الى توطين النازحين في لبنان وكلّ دول جوار سوريا، هي واحدة من التحدّيات الكبرى المفاجئة التي كان بري يؤشّر الى امكانية ظهورها فجأةً، حينما وصَف التوقيت الراهن بأنه «تاريخي» لكونه مثقلاً باحتمالات المفاجآت الدولية الكبرى. وكان بري خلال لقائه بكتلته النيابية، قد أعطى أمثلة عن نوعية المتغيّرات الدولية والاقليمية الكبرى التي تجري حول لبنان، ما يوجب عليه الاستعداد لمواجهة تبعاتِها، وأبرزُها ما حدث في مصر من مصالحة بين حركتَي «حماس» و«فتح»، معتبراً انّ هذا التطوّر «مهم واستراتيجي» على مستوى التقدّم نحو حلّ القضية الفلسطينية وبالتالي إعادة ترتيب اوراق الاستقرار في المنطقة. وقال بري إنه كان مواكباً ومطّلعاً على مسار مساعي ترتيب ملفّ المصالحة الفلسطينية.
ثمّ لفتَ الى ضرورة التحرّك سريعاً في شأن ملفّ الغاز والنفط اللبناني، وذلك على غير مستوى، وبينها إنشاء الصندوق السيادي وجملة الخطوات التي تضمن شفافية مسار الدولة في اتّجاه إطلاق ثروة الغاز من الحبس في باطن البحر والأرض.
بات واضحاً الآن أنّ اقتراح بري التبكيرَ في إجراء الانتخابات له صلة برؤيته في شأن انّ على لبنان تحصين نفسِه داخلياً، والتعامل مع هذه المرحلة بصفتها تتّسم بتوقيتٍ دولي تاريخي قد تتغيّر فيه خرائط ومعادلات استراتيجية.
وعليه، فإنّ المطلوب اتّخاذ كلّ القرارات التي تؤهل لبنان لكي يصبح جاهزاً لمواكبة ما هو آتٍ من تحوّلات في كلّ المنطقة، خصوصاً انّ بعض إرهاصاتها الايجابية، أو الخطرة، بدأت تطلّ برأسها، وهي استوطنَت في الاسابيع الاخيرة ساحاتٍ كثيرة وعلا صوتُها في محافل دولية عدة، وطاوَل لبنانَ شيئاً مهمّاً منها، على الرغم من انّ الإعلام لم يؤشّر الى ذلك.
وأبرزُ التحوّلات الدولية الكبرى التي ظهرت خلال الاسابيع الثلاثة الاخيرة، والتي بانَ أنّ إرهاصاتها تستهدف لبنان، تتمثّل بالآتي:
أوّلاً – مناورة «السهم الأزرق» العسكرية التي أطلقَتها إسرائيل على حدودها مع لبنان وسوريا، والتي أطلق عليها «حزب الله» في كواليسه
العسكرية تسمية «مناورة الفيالق»، وهي تسمية تطلَق على نوع من المناورات التي تؤشّر الى انّ الدول التي تقوم بها تتهيّأ ولو نظرياً لخوض حربٍ وشيكة او لحربٍ قد تقع في ايّ لحظة لأنّ العوامل التي ستتسبَّب بها، اصبَحت اكبرَ من إمكانية احتوائها سِلمياً.
وما لم يُسرَّب عن التفاعلات التي واكبَت مناورة «السهم الأزرق»، تكشفه مصادر قريبة من روسيا التي تقول إنه في خلالها كان هناك قلقٌ في عواصم القرار الدولي، وبينها موسكو، من ان تؤدّي الى حرب.
وتكشف هذه المصادر انّ موسكو خشيَت فعلاً من ان يتسرّع «حزب الله» في تقدير الاخطار المباشرة للمناورة عليه، فيقوم تحت ضغطِ الخوف من وجود نيات عملية اسرائيلية مباشرة خلفها، بمبادأةِ إسرائيل بالحرب. ولكنّ موسكو اطمأنّت بعدما لمسَت انّ الحزب «قلق» من المناورة وليس «خائفاً» منها، وبذا امكنَ تجاوُز نتائجِها على مستوى ردّة فِعل «حزب الله» عليها.
ثانياً – المناورة الاكثر خطورةً من «السهم الارزق»، والتي حدثت في جلسة مجلس الامن الدولي أواخر الشهر الماضي، في مناسبة مناقشة التجديد لقوات «اليونيفيل» العاملة في جنوب لبنان.
حيث بَرز خلالها اتّجاه اميركي ـ بريطاني – اسرائيلي لتغيير قواعد الاشتباك الخاصة بالقرار 1701، وذلك في نواحٍ اساسية عدة، ابرزُها تمكين «اليونيفيل» من القيام بحملات تفتيش عن سلاح «حزب الله» داخل المنازل والمخابئ في القرى الواقعة ضمن نطاق عملياتها وراء خطّ شمال الليطاني، وايضاً محاولة هذا المحور ان تشمل التعديلات على القرار 1701 توسيعَ نطاق عمل «اليونيفيل» ليشملَ حدود لبنان الشمالية مع سوريا.
وأدّت هذه المقترحات الى اشتباك سياسي دولي داخل كواليس الامم المتحدة التي مهّدت لجلسة النظر في التمديد لـ«اليونيفيل»، ورافقت انعقادها. وقد بَرزت خلال هذا الاشتباك المحاور الآتية: المحور البريطاني ـ الاميركي الداعي الى التعديل.
وفي مقابِله الدول الاوروبية المشاركة في قوّة «اليونيفيل» في الجنوب، وعلى رأسها باريس التي أبدت معارضتَها إدخالَ أيّ تعديل على قواعد اشتباك في القرار 1701، وذلك لاسباب عدة، ابرزُها أنّ ذلك سيضع قوة «اليونيفيل» في مواجهة مع الحزب وقاعدته الشعبية داخل منطقة عملياتها.
اضِف الى انّ باريس غير معنيّة بخدمة الهدف الاساس من طرحِ هذه التعديلات، وهو الضغط على «حزب الله» في سوريا من خلال ليِّ ذراعِه في منطقة عمل «اليونيفيل» في جنوب لبنان.
فباريس لم يعد لها في سوريا ما تقايض به في أيّ ساحة أخرى، ذلك أنّ الاطراف السورية المعارضة التي كانت دعَمتها وراهنَت عليها ليكونَ لها من خلالها حصّةٌ على طاولة تسوية الأزمة السورية، تبَدّد نفوذُها بكامله داخل المعادلة السورية، وعلى رأس هؤلاء مناف طلاس وشقيقته، وكلاهما يقيمان في ضيافة باريس منذ انشقاقهما عن النظام.
وإلى جانب المحور الفرنسي ـ الاوروبي اصطفت القاهرة في معارضتها إدخالَ أيّ تعديل على قواعد الاشتباك وفق القرار 1701. لكن في معلومات لـ«الجمهورية» أنه خلال الوقائع التي دارت في كواليس هذا الاشتباك السياسي الدولي، ظهر أنّ موسكو «قادت من الخلف» عملية شدِّ عصبِ القوى الاوروبية الرافضة هذه التعديلات، وذلك عبر تبرّعِها بأداء دورٍ احتياطي دولي يمكن وضعُه على طاولة القرار في الامم المتحدة، لمنعِ إمرار هذه التعديلات في حال نجَح البريطانيون والاميركيون في الضغط على فرنسا للتخلّي عن موقفها المؤيّد إبقاءَ قواعد الاشتباك كما هي بلا تعديل.
وتفيد هذه المعلومات انّ روسيا اختارت دورَ الانتظار حتى نهاية الاشتباك، لتتدخّل ولو بـ«فيتو» لمنعِ التعديل في اللحظة التي يبدو لها فيها انّ باريس ستخضع لضغوط لندن وواشنطن.
والواقع أنه في نهاية جولة نزاع الإرادات الدولية التي دارت في كواليس الامم المتحدة، أمكنَ التوصّل الى تسويةٍ تمّ بموجبها شطبُ إجراء تعديلات جوهرية على قواعد الاشتباك في عمل «اليونيفيل»، وبدلاً من ذلك أُدخِلت تعديلات غير عميقة على تلك اللائحة، ولكنّها تمثّل رؤوسَ محطات للانطلاق منها لاحقاً لجعلِها أشمل، ومن هذه التعديلات ما ورَد في المادة الخامسة التي يدعو فيها الامين العام للامم المتحدة الى إجراء تقييمات دورية لِما يُنجز، وذلك كلّ أربعة اشهر، إضافةً الى تلميحات أوّلية عن دور تفتيشيّ لـ«اليونيفيل» عن سلاح «حزب الله» داخل البلدات الواقعة ضمن قطاع عملها.