وجاءت موسكو أخيراً إلى ليبيا. وموسكو لا تأتي متأخرة إلاّ عندما تتأكد أن من جاء مبكراً يواجه صعوبات في الفوز بالكعكة كاملة! لا تأتي موسكو إلى مكان ما على خريطة العالم إلا عندما تعرف أن هناك مصلحة عليا يمكن قطفها بسرعة وبسهولة. هذا ما خبرناه خلال السنوات الأخيرة. وهذا ما بناه في الوجدان العالمي الرئيس فلاديمير بوتين في ولايتيه السابقة والحالية!
روسيا أدركت أخيراً أن ترك الساحة العالمية مسرحاً مفتوحاً للغرب، كان من أكبر أخطائها خلال العقود الأخيرة. «الروس الجدد» باتوا أكثر اقتناعاً أن انكفاءهم على مشكلاتهم الداخلية منذ تسعينات القرن الماضي، وابتعادهم عن التدخل في الأزمات العالمية، جعل من الغرب لاعبين منفردين على الساحة العالمية، الأمر الذي سمح لهم بالتمدد شرقاً حتى وصلوا أوكرانيا. ومن يصل لأوكرانيا اليوم، يستطيع بلا شك الوصول إلى قلب الكرملين غداً!
ذهبت روسيا بالأمس لسورية لتبني هناك على الواجهة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط جداراً حامياً لها ضد تحركات الغرب باتجاهها، وها هي اليوم تضع قدمها في ليبيا لتصنع نقطة اشتباك جديدة وتبني جداراً آخر، إنما هذه المرة في المجال الحيوي لأوروبا، وبالقرب من خاصرتها.
حاولت فرنسا أن تخترق المكونات الليبية وتنفرد بالحلول والغنائم، لكنها فشلت بسبب حصر جهودها في التوفيق بين فريقين متخاصمين اثنين لا يمتلكان «نقاط تفاهم» مشتركة على الإطلاق، إيطاليا وقعت في المشكلة نفسها، ولم تستفد في غمرة الإعداد لاجتماعات «باليرمو» من «درس باريس» قبل أشهر. كررت إيطاليا الخطأ نفسه. لكنها لسوء الحظ لم تحصل حتى على النتائج نفسها، إذ لم تستطع أن تجمع فائز السراج وخليفة حفتر في صورة فوتوغرافية واحدة كما فعلت فرنسا في انتصارها الوحيد!
أميركا التي لا يمكن التنبؤ بما تفعل هذه الأيام، ما تزال أسيرة لحسابات دونالد ترامب الداخلية، ولا يبدو أن ليبيا تظهر في رادارها في الوقت الحالي. ربما تأتي أميركا بعد هدوء الأوضاع في الكونغرس، لكنها أيضاً قد تخرج بلا مقدمات وعلى طريقة «تعرف! هي لك!!».
في هذه الظروف، وأمام كعكعة المصالح الكبيرة هذه التي لم تلمس حتى الآن، جاء الروس. جاءوا في وقت محسوب جيداً وبطريقة جديدة وجاذبة.
فأما الوقت فهو قبل المؤتمر الوطني الجامع الذي أعلن عنه المبعوث الأممي لليبيا غسان سلامة في شباط (فبراير) المقبل والذي من المنتظر أن يضم مكونات ليبية عدة في مشهد يمثل خروجاً على خط الحل الذي كان مقصوراً تقريباً خلال السنتين الماضيتين على حكومة الوفاق في غرب ليبيا والجيش الوطني ومتعلقاته البرلمانية في شرقها.
وأما الطريقة الجديدة الجاذبة فتتمثل في الدعوة لشمول الفرقاء الليبيين كافة في المفاوضات المقبلة بما فيهم سيف الإسلام القذافي. جديدة لأنها بُنيت على أنقاض اجتماعات باريس وباليرمو، وجاذبة لأنها ستحظى بكل تأكيد بمباركة كل التيارات السياسية والوطنية والدينية الفاعلة على الأرض من خارج إطار خط «حفتر – السراج». ستجد هذه الدعوة قبولاً واستحساناً من هذه التيارات المنغمسة يومياً في صنع المشاكل والتي يسوؤها بالتأكيد استبعادها من صنع الحلول.
لكن السؤال يبقى: لماذا زجت روسيا في هذا الوقت باسم سيف الإسلام القذافي تحديداً في مشهد الحلول؟
بعد خروج سيف الإسلام القذافي من السجن في منتصف العام الماضي، اختفى عن أنظار العامة، لكن زعيماً مثله ما كان ليختفي عن دوائر العواصم العالمية الفاعلة ومن أبرزها موسكو القريبة منه ومن والده. هذا أولاً، وأما ثانياً فإن حالة «اللاجدوى» التي تلقي بظلالها على المواطن الليبي، والشعور بخيبة الأمل في الثورة والثوار الذي صار ملمحاً عاماً في الحياة اليومية في ليبيا، جعلا من رموز النظام السابق أبطال أمن واستقرار، وهذا ما أعاد القذافي الابن من جديد إلى واجهة التصريحات الروسية، ليس حباً فيه لذاته، أو دعماً لتاريخه وتاريخ والده، وإنما بحثاً عن تعزيز شعبية الكرملين بين أوساط العامة.
وثالثاً، لأن موسكو تدرك جيداً أن سيف الإسلام القذافي مستبعد تماماً من منصة الحلول الغربية، وبالتالي فهو يمثل بالنسبة لها «نقطة الاشتباك المفضلة» التي تستطيع أن تكايد بها الغرب أطول فترة ممكنة.
موسكو تتنزه في ليبيا على وقع الخلاف الفرنسي الإيطالي، واستثماراً للانسحاب الأميركي المؤقت من المنطقة، وفي ظل غياب موقف عربي موحد. تفعل ذلك مدفوعة بمصالحها، لكن ما هي مصالح تركيا يا ترى التي تدفعها لأن ترسل شحنة أسلحة، كما تقول الأخبار، إلى بلد يفتقد لسلطة مركزية تضبط أمنه.
موسكو هنا لأنها تحارب الغرب، وتركيا هنا لأنها تريد أن تستمر الحرب الأهلية حتى يتحقق الهدف من الثورات العربية: مجيء حكومات على وزن «العدالة والتنمية»، تسبح بحمد رجب طيب أردوغان وتصلي باتجاه مسجد السلطان أحمد.