IMLebanon

موسكو تستعين بالقاهرة على دمشق… ولأميركا «جيشها»!

 

اتفاق الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هامبورغ ماض في سورية. ثمة حرص ثنائي على مواصلة التفاهم ومراعاة المصالح، بعيداً عما يحصل بين واشنطن وموسكو من تدهور كبير للعلاقات. وحرص على خلق وقائع على الأرض، بعيداً عن مشاريع وخطط للاعبين آخرين في الأزمة. وستشكل هذه الوقائع محركاً أساسياً لمفاوضات جنيف الشهر المقبل. القوات الأميركية وشركاؤها شرق بلاد الشام وشمالها يعملون على بناء «جيش وطني» ينطلق من مناطق الكرد للانخراط في الحرب على «داعش» والفصائل المتشددة الأخرى. يعني ذلك أن وقف برنامج البنتاغون لتدريب وتسليح عناصر معارضة استعيض عنه بمشروع آخر. فالقوى التي رفضت حصر المواجهة بالتنظيم الإرهابي دون النظام ستكون خارج صفوف «الجيش» الجديد. ويعني ذلك أيضاً أن الصراع على الحدود السورية – العراقية يظل مفتوحاً. وستحدد معركة دير الزور التي يعد لها الأميركيون، بعد الرقة، مآل هذا الصراع. وقد ينخرط فيه الكرد وعشائر الفرات نزولاً إلى مثلث التنف عند الحدود مع الأردن حيث القاعدة الأميركية – الأوروبية. وقد تشكل هذه الواجهة الشرقية «منطقة آمنة» إضافية تساهم في ترسيخ الهدنة في الجبهة الجنوبية. ولا يستبعد تأهيل هذا «الجيش» لاحقاً ليشكل مع الفرق النظامية التي يبنيها الروس المؤسسة العسكرية الجديدة.

لذلك من المبكر التسليم نهائياً بتواصل الميليشيات العراقية والسورية عبر الحدود المشتركة بين البلدين الجارين. وقد تكون السيطرة على مساحة ليست واسعة بين شمال التنف ومنطقة الفرات الداخلية، أو الشامية، عنوان المواجهة المقبلة مع الميليشيات التي تدعمها إيران. وهذه المنطقة ضيقة يمكن ان يتمدد إليها الكرد أو الفصائل العربية التي تدربها وتسلحها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. عندها يمكن القول إن واشنطن ضبطت الحدود الشرقية لبلاد الشام. وإذا صح ذلك ينتفي ما أشيع من كلام على اتفاق مع موسكو يسلمها الأميركيون بموجبه قاعدة التنف.

بموازاة هذا التوجه الأميركي، يجهد الروس لترسيخ خريطة «مناطق خفض التوتر» وتوسيعها. لم يبق سوى شمال البلاد، أي إدلب وريفها. ومع هذا التوسع يزيد انتشارهم في معظم نواحي البلاد وجبهاتها، على أن يبقى الشرق والشمال الشرقي بأيدي الأميركيين وحلفائهم من عرب وكرد. مرد هذه السهولة أو السرعة في تبديل المشهد على الأرض اغتنام اللاعبين الكبيرين تعب السوريين. فإذا كان المتصارعون وبعض رعاتهم الإقليميين لم يتعبوا، فإن الناس العاديين تعبوا. وعبروا عن ذلك بأكثر من صورة وموقف. اعترضوا في الغوطة الشرقية لدمشق وبعض نواحي إدلب على الفصائل المقاتلة، خصوصاً «جبهة فتح الشام» (النصرة). تظاهروا ضدها فأذعنت وحلت تشكيلاتها.

اللافت في بناء خريطة «مناطق خفض التوتر» التي أقرتها اللقاءات الثلاثية في آستانة، أن النظام السوري لم يكن حاضراً أو فاعلاً في مرحلة التنفيذ، بخلاف ما كان يحصل في «نظام المصالحات» السابق. ويؤشر هذا إلى الهوة التي تتسع بين ما تريده موسكو وما تصر عليه دمشق. والجديد اللافت أيضاً أن شركاء آخرين غابوا عن العاصمة الكازاخية، كانوا حاضرين. بالطبع روسيا هي القاسم المشترك في الميدان، بينما غاب شريكاها الإيراني والتركي. ففي اتفاق الهدنة في الجنوب حضر الأميركيون والأردنيون، وكان الإسرائيليون الغائب الحاضر. فهذه الخطوة، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين «ليست لمصلحة سورية فقط، بل تخدم مصلحة الأردن وإسرائيل، مما يعني أنها لمصلحة الولايات المتحدة أيضاً، آخذين في عين الاعتبار أن هذه المنطقة منطقة مصالح أميركية». وفي اتفاق الغوطة الشرقية للعاصمة ثم في ريف حمص الشمالي كانت مصر هي الشريك.

بالطبع يستجيب هذا التطور ميل القاهرة إلى إداء دور في أزمة بلاد الشام. يعنيها أن تستعيد دورها في الإقليم من الباب الذي يوفر لها هذه العودة. فهي لم تقطع العلاقة، السياسية والأمنية، مع النظام في دمشق. لكنها في المقابل أفسحت مجالاً لطيف من المعارضة سمي باسمها («منصة القاهرة»). وهي تعرف أنها لاعب يرغب فيه طرفا الصراع الداخلي، فضلاً عن اللاعبين الدوليين، الولايات المتحدة وروسيا التي أيدت تدخلها. ومنذ إطاحة نظام «الأخوان» في مصر، نقل الرئيس عبد الفتاح السيسي خطواته بدقة حيال الأزمة في سورية. أبقى الخطوط مفتوحة مع دمشق، لكنه لم يفتح الباب نحو إيران. وازن بين علاقاته مع دول الخليج العربي وموقف هذه من النظام ومن تمدد طهران. ولكن طرأ كثير على المشهد العام اليوم. فالحوار لا يزال قائماً خصوصاً بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وروسيا. لم يعكره أن هذه وسعت انتشارها، وأضعفت الفصائل المعارضة وساعدت النظام على الثبات وتحقيق انجازات ميدانية. لم يعد لخصوم الجمهورية الإسلامية تحفظات كبيرة عن مواقف موسكو، خصوصاً ان ثمة اقتناعاً في أوساطهم بأن هذه ستصل في نهاية المطاف إلى إضعاف دور طهران. ولا يضير هؤلاء، في حمأة الأزمة بين دول الخليج الثلاث ومصر من جهة وقطر من جهة ثانية، أن تتولى القاهرة دوراً ينهي وجود تنظيمات سورية تتلقى الدعم من الدوحة وأنقرة. وبات واضحاً أن الدولتين الخليجيتين منخرطتين في دفع الأزمة نحو تسوية. وقد دعت الرياض أخيراً «الائتلاف الوطني» المعارض إلى لقاء سيشمل أطيافاً أخرى من المعارضة لتوحيد الموقف والرؤية والتعامل مع المعطيات الجديدة على الأرض والانخراط جدياً في المفاوضات السياسية.

يبقى أن هناك واقعاً آخر هو أن روسيا التي لم تقطع هي الأخرى لقاءاتها وتفاهماتها مع شريكيها في آستانة، تبني علاقات موازية مع أطراف أخرى. هدفها توسيع دائرة المعنيين بالأزمة في سورية لتظل لها الكلمة العليا. شاركت وتشارك إسرائيل والأردن والولايات المتحدة. وها هي اليوم تستعين بمصر طرفاً يحل منطقياً محل النظام الذي كان يفترض أن يضع يده على الغوطة الشرقية ما دام أن أهلها ضاقوا ذرعاً بالمقاتلين وحروبهم. وكان يفترض أن تكون تركيا شريكتها في اتفاق شمال حمص. لكنها أدركت من الأعلام الروسية التي رفعها الناس العاديون تعني أنهم لا يرغبون في عودة النظام إلى مناطقهم. وهم مستعدون لاستقبال أي طرف باستثناء قوات النظام. بل هي تعمدت اللجوء إلى القاهرة بديلاً من النظام الذي لا يزال يعاند في تسهيل المفاوضات السياسية والقبول برؤية الكرملين للحل. كما أنها توجه رسالة واضحة إلى كل من طهران وأنقرة أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة بما يناسب أجندتها وليس أجندة كل منهما. وهو ما سيؤدي في النهاية إلى إضعاف دورهما في الأزمة ورسم صورة سورية الجديدة التي تسعى إليها.

إضافة إلى ذلك، يأتي إشراك مصر في إطار الهدف الاستراتيجي الواسع لروسيا. فهي رمت من تدخلها في سورية تثبيت أقدامها شرق المتوسط، ثم تحويل قاعدتيها في حميميم وطرطوس منطلقاً إلى الشرق الأوسط كله. لذلك جمعت في كلتا يديها أطرافاً متناحرة أو متنافسة لا يمكن الجمع بينها، من إيران وإسرائيل وتركيا إلى دول الخليج ومصر. وخرجت من فضاء المشرق إلى شمال أفريقيا، إلى ليبيا التي كانت يوماً مستودعاً للترسانة السوفياتية في القارة السمراء كلها. وأعادت تحريك ديبلوماسيتها للانخراط في أزمة اليمن لئلا تكون بعيدة عن أي تسوية سياسية في هذا البلد. يريد الكرملين بوضوح استعادة ما كان للاتحاد السوفياتي أيام الصراع بين «الجبارين». لا يريد بالطبع مواجهة مع الولايات المتحدة، لكنه يريد تقديم بلاده قوة يعتد بها تماماً كما الصين التي باتت شريكاً سياسياً وعسكرياً يعينه على المواجهة مع الغرب عموماً، وإن اختلفت أهداف الطرفين.

في النهاية إن المشهد الذي ترسمه الشراكة الأميركية – الروسية على الأرض لا بد أن يترجم في المفاوضات السياسية قريباً. ولا بد من «تطويع» النظام وحلفائه والمعارضة ومن بقي لها من سند. فلا هزيمة كاملة لطرف ولا انتصار حاسم لطرف. لا بد من تنفيذ القرار الدولي 2245 والقرار2118 بقيام هيئة الحكـم الانتقالي من أعضاء في الحكومة والمعارضة ومجموعات أخرى تمـارس الــسلطات التنفيذيــة الكاملة. ولا يسع المعارضة اليوم، كما لا يسع النظام، المعاندة والوقوف بوجه الرغبة الدولية في وقف القتال. صحيح أن الفصائل لم تحقق مبتغاها في التغيير الجذري، ولكن يكفي أن الظروف الحالية وموازين القوى على الأرض لا تسمح بأكثر من اقتسام السلطة في نظام فيديرالي نادت به موسكو منذ اليوم الأول، ولا يخالفها الغرب في ذلك… لكنه قد لا يكون الفيديرالية التي ينادي بها الكرد في شرق البلاد. فما يعارض المجتمع الدولي قيامه في كردستان العراق لا يمكن أن يسمح به في قطعة من أرض سورية.