ليست بسيطة قصة عرسال. والكلام المتداوَل حولها خطر جداً. ففي بعض الأوساط الشيعية والسنّية، وفي تقدير محلّلين، أن البلدة ربما تدفع الثمن في لعبة المقايضات المذهبية الآتية بين لبنان وسوريا والعراق. ويُخشى أن يعني هذا الكلام، بعيداً عن المواربة اللبنانية المعهودة، أنّ البعض هو اليوم في صدد «تصحيح خطأ» في موقع عرسال الجغرافي وواقعها الديموغرافي!
ليست المواجهة في عرسال وجرودها جزءاً من صراع مذهبي لبناني- فالسنّة والشيعة في لبنان لا يتنازعان مناطق النفوذ- بل هي جزء من المواجهة المذهبية الدائرة في سوريا، وتحديداً هي جزءٌ من المعركة على دمشق وحمص وأريافهما. وفي عبارة أشدّ وضوحاً، هي جزءٌ من المعركة الرامية إلى تأمين امتداد لمنطقة النفوذ الشيعية- العلوية من الساحل إلى دمشق.
وبناءً على هذا الواقع، إنّ طبيعة المعركة في عرسال خاضعة للتحوُّلات التي ستفرضها معركة السيطرة على حمص ودمشق، والتي باتت داهمة على الأرجح. وتكتسب القلمون أهمية استراتيجية في هذه المعركة. وليست عرسال سوى المقلب اللبناني من القلمون، علماً أنّ خطّ الحدود بين البلدين كان تقريبياً قبل الحرب الأهلية السورية، وبات بعدها إفتراضياً.
ولذلك، باتت معركة عرسال مستعجلة بقدر ما هي كذلك معركة العاصمة السورية. وفي المفهوم العسكري، تدير طهران وحلفاؤها مسألة عرسال بوصفها جزءاً من الإدارة المتكاملة للمعركة السورية. ومن هذه الرؤية، يصبح ممكناً التعمّق في الجوانب الأخرى من المشهد العرسالي، أيْ الجوانب «اللبنانية».
في الأيام الأخيرة، رفع «حزب الله» سقف مطالبه في عرسال إلى الحدّ الأقصى بإصراره على الحسم عسكرياً في الجرود و»تنظيف» البلدة. ولهذه الغاية، نشأت مجموعة عشائرية بعلبكية مسلحة هي أقرب إلى الجيش الشعبي جاهزة لحالات الطوارئ.
ولأنّ مجلس الوزراء وُضِع في مأزق أن يتبنّى توجُّهات «حزب الله»، إرتأى رئيسه تمام سلام تمرير العاصفة بتسوية تقضي بالتأكيد على إعطاء الجيش دوراً أمنياً في البلدة. لكنّ «الحزب» بقي مصرّاً على مهمته في الجرود.
وهنا تبدأ الأزمة في التفاقم. ففي منطق «الحزب» لا مجال للتسوية في عرسال، والمطلوب هو نوع من الحسم الذي لا يمكن للجيش اللبناني أن يلجأ إليه. ولذلك، يخشى بعض المتابعين أن يصبح الجيش، لاحقاً وتدريجاً، في مواجهة صعبة مع حقل الألغام العرسالي. ويطرح هؤلاء أسئلة عدة في هذا الملف:
1- هل يتعرَّض الجيش لظروف تدفعه إلى التنسيق مع «حزب الله» في مواجهة المسلّحين؟ وما هي التردّدات الناتجة عن ذلك؟
2- هل تمتدّ مواجهات «حزب الله» مع «النصرة» وسواها من الجرود إلى داخل عرسال، خصوصاً في ظلّ وجود نحو 50 ألف نازح سوري في المخيمات والمنازل؟
3- إذا خاض «الحزب» مواجهة عسكرية مع لبنانيين من عرسال، فما الموقف الذي سيتخذه الجيش؟ وهنا تكون الخيارات كلها صعبة: إذا تدخّل لمصلحة «الحزب» سيثير حفيظة الآخرين، والعكس صحيح. وأما وقوفه على الحياد فيعني تخلّيه عن دوره.
هذه الأسئلة يحتاط لها الجيش تماماً. ومنذ اندلاع المواجهة في القلمون، هو يصرّ على الاضطلاع بالدور الذي يقتضيه منه الواجب الوطني، ضمن الحدود والمعايير العسكرية المحدّدة. ولذلك، يحرص الجيش على أداء مهماته بحزم و»نظافة مهنية»، متجنّباً أيّ خطوة غير محسوبة، وبناءً على تعليمات واضحة ودقيقة.
وهذا الحرص على الجيش ينبع من كونه الضمانة الوحيدة الباقية للاستقرار الأمني، وتالياً السياسي والاقتصادي، وإلى جانبها ضمانة أخرى مالية، هي مصرف لبنان. وفي زمن انهيار المؤسسات أو تعثّرها، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة والمجلس النيابي والعديد من الإدارات والأجهزة، يصبح دور الجيش أساسياً لحماية الاستقرار… في انتظار المخرج الوطني الشامل الذي ستفرزه التحوّلات الآتية.
لذلك، يبدو حسّاساً دور الجيش في عرسال، ليس فقط على مستوى الأمن في البلدة بأهلها الـ40 ألفاً والنازحين الـ50 ألفاً، بل على مجمل الوضع اللبناني. ففي عرسال أخطر حقول الألغام، ومنها يستطيع الجيش أن يثبت قدرته على الإمساك بالمبادرة مهما اشتدَّت الضغوط.
وأما إذا حصل العكس، بتأثير من التعقيدات السورية، فستكون ملامح كارثة قد أطلَّت على لبنان. لكنّ الجيش يثق في قوّته، ويراهن على تمرير القطوع تلوَ القطوع حتى نهاية النفق.