بعد تسمية الدكتور مصطفى أديب رئيساً مُكلّفاً تأليف الحكومة العتيدة، شعر اللبنانيّون أنّهم أمام رئيس من قماشة مختلفة عن المعهود وقادر على إدارة الأزمة في البلاد، خلافاً للقوى السياسيّة التي تقول ما لا تفعل وترفع الشعارات الفارغة. الّا أنّ عمليّة التأليف لم تتقدّم في ظلّ المشاورات التي يجريها الرئيس المُكلّف بعيداً عن الإعلام. ويعزى ذلك الى التباين المنهجي في إدارة ملف التأليف ما بين رئيس الحكومة المُكلّف وغالبية الأفرقاء السياسيين الذين سمّوه، وضعف التواصل الجاد بين الطرفين.
تسعى السلطة البائدة الى استكمال نهجها في المحاصصة الحكوميّة تحت مسمّيات كاذبة ومنمّقة على غرار «مراعاة حسن التمثيل» و«الحفاظ على التوازن اللبناني»، وهي تريد إعادة تجربة حكومة «مواجهة التحدّيات» المستقيلة، مع القليل من المراعاة للرئيس المُكلّف، مغلّفة بمحاولة لاستدراجه الى الدخول في لعبة المحاصصة فيما يُطالب اللبنانيّون بحكومة حياديّة ومستقلّة قلباً وقالباً، تضمّ وزراء أصحاب اختصاصٍ في الحقائب الوزاريّة المسندة لهم.
وهناك تباين منهجي واضح في إدارة ملف التأليف ما بين رئيس الحكومة المُكلّف وغالبية الأفرقاء السياسيين. ففي حين يصرّ الرئيس المُكلّف على تأليف حكومة «تكنوقراطيّة» مصغّرة يسمّي فيها الوزراء ويوزّع الحقائب على القوى السياسيّة كما يُريد لتأتي متجانسة وفاعلة، تدفع القوى السّياسيّة التأليف الحكومي في اتجاه تأليف حكومة «تكنو- سياسيّة» او سياسيّة موسّعة، بحجّة أنّ البلاد تشهد حالة استثنائيّة وتواجه ملفّات اساسيّة وحسّاسة مُعظمها له طابع سياسي. كما انّ التواصل بين الرئيس المُكلّف وبعض القوى السياسيّة ضعيف وشبه معدوم، لا سيّما مع رئيس تكتّل «لبنان القوي» جبران باسيل، علماً أن رئيس الجمهورية نصحه أكثر من مرة بالتواصل مع باسيل ولكن دون جدوى، ما أثار استياء الأخير الذي قال بأنه «لن يُشارك في الحكومة ولن يُعطيها الثقة».
حتى اللحظة يبدو رئيس الحكومة المُكلّف منسجماًمع نفسه وقناعاته الى أبعد الحدود، وهو يعمل بصمت وجهد بعيداً عن الصخب السّياسي من أجل تشكيل حكومة تجسّد متطلبات المرحلة مالياً واقتصادياً ومعيشياً، وكل ما يسرّب يدخل في باب التكهنات والضغوط عليه بهدف دفعه للخروج عن صمته، ولكنه ما زال صامداً، وهذا ما يربك القوى السياسيّة التي اعتادت ان تعلن الأسماء الحكوميّة قبل صدور مراسيم تأليف الحكومة، وهي تنتظر أن يُعلن الرئيس المُكلّف عن تشكيلته حتّى تقرر كيف ستتعاطى مع الحكومة. من هنا تزداد التوقعات عن تقديم الرئيس المُكلّف تشكيلة حكوميّة مستقلّة مطلع الأسبوع المقبل، سيرفضها رئيس الجمهوريّة، الأمر الذي ربما يؤدّي الى اعتكافه.
بالنتيجة، لقد مرّ أكثر من اسبوع على التكليف في ظلّ محاولات المكونّات السياسيّة الرامية الى اقصاء الآخر ووضعها الشروط والشروط المضادّة، ما يُنذر انّ لبنان دخل في مرحلة تصفية الحسابات السياسية على حساب الحكومة والشّعب. ويبدو أنّ هناك من يريد دفع الرئيس المُكلّف نحو المشاركة في لعبة المُحاصصة، أو الاعتذار عن التأليف ورفع الشكوى الى الفرنسيين بهدف خلط الأوراق مجدّداً. وبالمُقابل يبدو الرئيس المُكلّف مصمّماً وثابتاً على خياراته في الإصلاح والإنقاذ، بل يوحي سلوكه في اللحظة بأنّه يسعى الى استعادة هيبة ودور الرئاسة الثالثة والحفاظ اتفاق الطائف.
وإن كان الرئيس المُكلّف يتعاطى مع القوى السياسية بانفتاح وشفافيّة فذلك لا يعني استعداده للتسليم بشروطها التعجيزية في محاولة منها لتحسين موقعها السياسيّ وصولاً إلى انتزاع موافقته على تشكيل حكومة تراعي مصالحها الخاصّة. ويبقى الرئيس المُكلّف الأقوى طالما هو متمسك بخياراته التي تتلاقى مع تطلعات اللبنانيين، وهي إما القبول بحكومة مستقلّة قلباً وقالباً، أو الاعتذار عن التأليف، الأمر الذي سيكون له تداعيات كبرى على العهد الذي يُنازع للبقاء على قيد الحياة، وعلى صعيد فرض العقوبات على المسؤولين السياسيين، فيما يستمرّ اللبنانيّون في دفع الثّمن الأغلى في الوقت الضائع.