يوم “السبت الأسود” نجوت بهوية مزوّرة… وحملت السلاح على جبهة زغرتا
للدكتور مصطفى علوش تجربة سياسية غنية بعضها حديث في السياسة وبعضها مخفي ولم يسبق أن كشف عنه إلّا لماماً. النائب السابق ونائب رئيس «تيار المستقبل» قبل أن يستقيل من «التيار»، كان منتظماً في العمل الأمني في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وتحديداً في العمل الخارجي الذي كان يديره وديع حداد، الرجل اللغز والمخطط للكثير من العمليات الأمنية وخطف الطائرات. من خلال هذه المهمة أرسل علوش أكثر من شخص للمشاركة في هذه العمليات وكانوا يعلمون أنهم قد لا يعودون. في هذه الحلقة يتحدث عن وعيه السياسي في مرحلة ما قبل الحرب وعن مشاركته في الحرب وكيف قابل مرّة وديع حداد ومرّة كارلوس يوم سلمه شخصاً ليشارك معه في عملية عرف لاحقاً أنّها كانت تهدف إلى خطف وزراء نفط الدول المصدرة للنفط «أوبك».
كيف تكوّن لديك الوعي السياسي؟
– نحن أبناء منطقة شعبية. ولدت في باب التبانة وأهلي من باب التبانة. في الوقت نفسه كان والدي ووالدتي ناشطين سياسياً. والدتي علوية ومثقفة ووالدي مثقف وقارئ جيد. كلاهما كانا قريبين وصديقين للحزب السوري القومي الإجتماعي في مراحل معينة، ولست متأكداً إذا ما كان والدي قد انتسب إلى الحزب أو صار صديقاً ليتقرب من والدتي التي كانت حزبية. جو الإهتمام بالسياسة لم يكن غريباً عن عائلتنا وكنت بدأت أقرأ الصحف وكان عمري 8 سنوات. منذ البداية بدأت أشعر بالتزام تجاه القضية الفلسطينية لأننا هكذا تربينا مع العلم أنّ جدي كان مؤيداً لكميل شمعون ولا يحب جمال عبد الناصر كما أنّ والدي كان يشكك بسياسته وكان يعتبر أنه كقائد غير صادق في كلامه. وربما كان ذلك نتيجة تأثره بالحزب السوري القومي الإجتماعي الذي كان على عداء مع عبد الناصر وفي مرحلة لاحقة كان أقرب إلى الشهابية وإلى شخصيات مثل رشيد كرامي وجان عبيد.
سنة 1970 كنت في كشافة لبنان في مدرسة الطليان في طرابلس وهي مدرسة مسيحية. أحد أصدقائي ماروني من زغرتا، نبيل حرب، كان والده يعمل في يافا في فلسطين وبقي لديه الحنين إليها وبقيت القضية الفلسطينية حيّة في وجدانه، عرض علي نبيل أن ننتمي إلى منظمة فلسطينية وكانت الفكرة مقبولة عندي. وجدت نفسي أنني مشيت في سياق طبيعي. بدأنا نحضر جلسات تثقيفية هنا في طرابلس. كانت هناك حلقة ضيقة يسارية الطابع تنتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بالأساس كان هذا جو بيتنا. لم يكن جواً متديناً متزمتاً بل كان مؤمناً. أضف إلى ذلك، كان جو طرابلس يسارياً وضد السلطة، وهذا ما كان يظهر أيضاً في كثير من المحطات والأحداث التي شهدتها المدينة من حوادث 1969 مع حركة «24 تشرين» ثم مع حركة أحمد القدور عام 1974. بالإضافة إلى أنّها كانت مع القضية الفسطينية. خلال هذه المرحلة من العام 1970 ووصولاً إلى العام 1973 عندما حصلت الإشتباكات بين الجيش اللبناني والفلسطينيين كان وعيي السياسي قد زاد كما ازداد التزامي بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كانت طرابلس تمشي مع أي شيء ضد السلطة ما عدا النخب العائلية والسياسية. كانت المدينة منقسمة بين هذه النخب التي لا تتظاهر ولا تنزل إلى الشارع، وبين الطبقات الشعبية التي كانت تفعل ذلك. هذه الطبقات كانت ضحية الصراعات في كل المناطق. كان الفقراء يقاتلون بعضهم ويتقاتلون.
عائلتنا كان وضعها المادي ما بين الفقر والمتوسط. أيام منيحة وأيام عاطلة. ولكن كان همّ العائلة العلم. أخواتي البنات تعلمن في مدارس الروم الأرثوذكس أمّا أنا وأخي الصغير فتعلمنا في مدرسة الآباء الكرمليين. كان كل مصروف البيت مخصصاً للتعليم وهذا ما جعلني متفهماً وواعياً للحضور المسيحي. كنت أحضر ساعات التعليم الديني المسيحي وحفظت الإنجيل ولاحقاً صرت مطلعاً على الثقافات الدينية المختلفة وربما أكثر من بعض رجال الدين. كان يوم الجمعة موعد القداس الأسبوعي في المدرسة وكنت أرتّل مع «الكورال» في الكنيسة وبعد ذلك أذهب وأصلي في الجامع وأحضر درس الدين الإسلامي واحفظ القرآن. وهذا ما أعطاني بعداً ثقافياً وانفتاحاً واسعاً. لم يعد عندي محرمات TABOO ضد الآخر.
العام 1975 منعتنا الجبهة الشعبية من التدخل في الحرب اللبنانية. سنة 1973 كنت بعمر 15 عاماً وكنا بدأنا نخضع لتدريبات عسكرية وأمنية وكنت قد لفت نظر القيادة فوجّهوني نحو العمليات الخارجية. عمل أمني وتدريب على خطف الطائرات مع وديع حداد.
تعرفت إليه؟
– مرة واحدة. حصل ذلك في جلسة كنت أحضرها ولم نكن نعرف من هو الشخص الذي يحدثنا. كنا في أحد المنازل السرية التي كنا نلتقي فيها هنا في الشمال وكان معنا نبيل حرب وعدد من الرفاق اللبنانيين والفلسطينيين. كانت حرب تشرين 1973 بين مصر وسوريا وبين إسرائيل قد انتهت وكان وزير خارجية أميركا هنري كيسينجر بدأ جولاته المكوكية للتوصل إلى فك الإشتباك وفصل القوات على جبهتي الجولان وسيناء الأمر الذي أدى لاحقاً إلى اتفاق الهدنة بين سوريا وإسرائيل واتفاقية سيناء ثم كامب دايفد بين مصر وإسرائيل، الرجل الذي كان يحاضر قال لنا إنّه تم الإتفاق بين كيسنجر والرئيس السوري حافظ الأسد بأن يقبل بالحل في الجولان وبفصل القوات وبالمنطقة العازلة وبوجود القوات الدولية ومقابل ذلك سيكون لبنان من حصته. قال لنا أيضاً إنّ حرباً أهلية ستحصل في لبنان وستدخل القوات السورية وتحتل لبنان. بعد الإجتماع عرفت أنّ هذا الشخص كان وديع حداد. اعتقدت ذلك الوقت أنّ ما قاله مجرّد تخيلات وتهيؤات وأنّه لا يمكن أن يتحقق ولكنه تحقق. وقتها كانت توجيهات وديع حداد، أبو هاني، «لا تتدخلوا في الحرب الأهلية لأنها الفخ الذي سيقع فيه الجميع. هذه الحرب ستكون طائفية وأنتم لستم طائفيين. أنتم وجهتكم الدائمة فلسطين».
ماذا فعلت في الحرب؟
– عندما بدأت الحرب في لبنان في العام 1975 بقيت بعيداً عنها إلى أن أتت سنة 1976 عندما دخل البلد كله في الحرب بعد يوم السبت الأسود وبعد المعارك الكثيرة التي حصلت على كل الجبهات وفي طرابلس لم يعد أحد يستطيع أن يقول «أنا ما دخلني». صار عيب عليك إن بقيت خارج إطار الحرب. بقيت في الجبهة الشعبية ولكن لجأت إلى حزب البعث العراقي لأنّه كان المجموعة الأكثر تنظيما والأقل زعرنة. خدمت على جبهة زغرتا، على جبهة الكرملية حيث كانت مدرستي وعلى جبهة مجدليا. كانوا يعتبروننا وكأننا من الوحدات الخاصة لأننا كنا مدربين ولكن لحسن الحظ لم أتورط في أي عملية قتل مباشر. كان هاجسي إذا التقيت وجهاً لوجه مع رفيق لي من أيام المدرسة ماذا أفعل؟ هل أطلق النار عليه؟ بقي هذا الخوف مسيطراً علي. لم أتصور أبدا أنني يمكن أن أفعل ذلك. كان مجرّد وجود على الجبهة.
أثناء حصار مخيم تل الزعتر حاولت أن أدخل إلى المخيم. مرّة خلال محاولة تقدم من أحد المحاور الجبلية وقد قصفنا السوريون فتراجعنا. ثم حاولت أن أدخل مع الصليب الأحمر لعلني اشارك في عمليات الإنقاذ ولكن من دون نتيجة لأنّ المخيم كان قد سقط. أرسلني أهلي شهرين إلى قبرص بعد دخول القوات السورية حتى تكون هدأت الأمور وبعد شهرين عدت إلى المدرسة.
كم بقيت مع الجبهة الشعبية؟ وأي مهمات شاركت فيها.
– بقيت 13 سنة. حتى العام 1983. بعد الإجتياح الإسرائيلي بدأت أطرح علامات استفهام حول جدوى العمل الفلسطيني المسلح. من المهمات الأساسية التي تكلفت بها كان التدريب والتثقيف السياسي وإدارة المجموعات. اعتبروا أنّ هذا دوري ولم يتم تكليفي بعملية على الأرض باعتبار أنني قادر على أن أكون في لبنان وأن أعمل على تحضير كوادر للمشاركة في العمليات. المجموعة التي كنت من ضمنها بقي منها اثنان على قيد الحياة أنا وشخص آخر اسمه ابراهيم أرسلته للعمل في الخارج. الآخرون استشهدوا في عمليات أمنية. اثنان استشهدا في عملية عينتيبي في 4 تموز 1976 في أوغندا خلال عملية خطف الطائرة هما خالد خلايلي وعلي ميعاري، وواحد استشهد في مقاديشو هو نبيل حرب الذي أخذني إلى العمل مع الجبهة الشعبية. والآخرون استشهدوا في اشتباكات متفرقة.
كنت تعلم بالعمليات التي سينفّذونها؟
– لا. كنت أعلم فقط أنّ عندهم مهمة. هم أيضاً ما كانوا يعلمون ما هي المهمة إلّا وقت العملية. ولكن كانوا يعرفون أنّ هناك احتمال الموت أثناء العملية. ما كانوا غافلين عن هذا الأمر. أعمارنا كانت بين 16 و18 سنة. أكبرنا كان بعمر 19 سنة. كان هناك تشديد على هذا الأمر. عندما كانت تطرح علينا قضايا من هذا النوع لنعمل عليها كانت التعليمات والتوجيهات بعدم تجنيد أي شخص بالغ. كان المطلوب أشخاصاً يعرفون لغات ولديهم ثقافات. عمليات كثيرة انكشفت لأن الذين كلفوا بتنفيذها ما كانوا يعرفون كيف يتصرفون في البيئة التي ينفذون فيها العملية. تصرّفاتهم كشفتهم. كان التشديد على تجنيد من يتقنون الإنكليزية والفرنسية وعندهم ما يكفي من الثقافة الإجتماعية لينخرطوا في البيئة التي ستكون مسرح العملية حتى لا يظهروا أنهم غرباء عنها. كان التشديد على أن يبدأ التجنيد بعمر 14 و15 عاماً لأنّه في هذه الأعمار تستطيع أن تغسل عقل من تجنّده وتطوّعه ولا يكون قد عمل في تنظيم أو جهاز آخر. في ذلك الوقت كنت أعتبر أنّها مهمة أخلاقية نقوم بها من أجل تحرير فلسطين وأنها عمل واجب من أجل فلسطين ولبنان.
ما قصة لقائك مع كارلوس يوم السبت الأسود والهوية المزورة؟
– أنا من الناس الذين نجوا من يوم السبت الأسود. كنت شاهداً على المجزرة. كنت عائداً من بيروت إلى طرابلس. وصلت إلى ساحة الشهداء وكان الوضع مخربطاً. إطلاق نار وفوضى. دخلت السيارة في شارع المتنبي وكنا نريد أن نتحاشى المرور في الصيفي حيث بيت الكتائب خوفاً من عمليات الخطف. توقّف السير. بدأنا نسمع صراخاً. فتحت الباب ونزلت من السيارة وتابعت سيراً. كنت أحمل هوية مزورة باسم مسيحي وشعري طويل بحيث يظهر فعلاً كأنني مسيحي. وبدل أن أعود إلى «بيروت الغربية» تابعت المشي. أوقفني شاب على أحد الحواجز وطلب هويتي. أعطيته الهوية المزورة. قال لي: روح. أكملت. وعلى رغم ذلك لم أغيّر قناعاتي اللاطائفية. على العكس تولّد لدي انتقاد شديد للتوجهات الطائفية. شعرت بردة فعل وأجريت مراجعة لذاتي في أوقات كثيرة. بعد وفاة وديع حداد بقيت على علاقة مع أبو ابراهيم العمري في الجبهة الشعبية ولكن المجموعة ضاعت في عمل أجهزة المخابرات بين المخابرات السورية والعراقية والبلغارية بعدما كانت شخصية وديع حداد هي الطاغية وماسكة كل الأمور. كان المطلوب أن تبقى المجموعات والخلايا مستقلة وبعيدة عن بعضها وغير مرتبطة ولا تعرف أيّ منها الأخرى وما تقوم به للحفاظ على سرية العمل والتنظيم، ولكن بعد ذلك تحوّل البعض إلى أدوات تعمل لدى أجهزة مخابرات مختلفة.
التقيت كارلوس مرة واحدة. كان اللقاء في شقة سريّة في منطقة المزرعة في بيروت. كان ذلك يوم السبت الأسود في كانون الأول 1975. كنت في مهمة كُلفت بها وهي نقل أحد الشباب من الشمال إلى بيروت ليشارك في عملية لم أكن أعرف ما هي. لاحقاً علمت أنها عملية خطف وزراء أوبك في فيينا التي دامت عدة أيام. كان المطلوب مني توصيله فقط والعودة. لم يقتل في العملية ولا يزال حياً ولديه ثروة لأنني عدت وأقنعته بترك هذه الأعمال. وهو من الأسماء التي لم يتم الكشف عنها. شعرت أنّه لم يبق غيره من المجموعة والقصة تنتهي بعد وفاة وديع حداد في آذار 1978. الهوية المزورة التي كانت معي وكنت أستعملها للتنقل «أنا عملتها». كان هذا اختصاصي من أجل المهمات التي ننفذها. نزلت من طرابلس إلى بيروت قبل يوم واحد من اللقاء مع كارلوس على الطريق الساحلي بواسطة هذه الهوية. في اللقاء كان كارلوس يجلس وبقربه شخصان لا أعرفهما، كما أنني لم أكن أعرفه. لا أذكر إذا كان أنيس النقاش موجوداً. ما كنت أعرفه أنني سألتقي كارلوس. حصل ذلك بالصدفة. لاحقاً عرفت من يكون. كان يتحدث بلغات مختلفة «وكم كلمة عربي». أنكليزي وبرازيلي. مهضوم يتحدث عن الأكل اللبناني والبنات. أنهيت المهمة وعدت وصارت قصة السبت الأسود.
يتبع في الجزء الثاني:
من ميشال عون إلى رفيق الحريري
(السبت 5 تشرين الثاني)