ليس في الانتخابات البلدية معركة تستحق أن تسمى أم المعارك. فلا هي، وإن اكتمل انخراط الأحزاب والتيارات والمرجعيات والعائلات فيها، ساحة الامتحان الكامل والدقيق لكشف الأحجام والأوزان السياسية. ولا التحالفات والخصومات والمنافسات وصفقات التوافق محكومة باصطفافات موحدة تنطبق على كل المعارك. اذ الحلفاء في مدينة خصوم أو متنافسون في أخرى. والانقسام السياسي الحاد فقد شيئاً من زخمه لدى جمهور كل طرف لأسباب متعددة تتجاوز ما حدث من انقلابات في الترشيحات الرئاسية. واللعب تحت الطاولة ليس أقل من اللعب فوقها. والتلاعب بالعصبيات الجهوية والطائفية والمذهبية والمال ليس صاعقة في سماء صافية لكي يوحي البعض أنه فوجئ بمناخ غير صحي.
لكن ذلك لم يمنع الأحاديث عن أم المعارك في أمكنة كثيرة: من بيروت الى زحلة والهرمل وبعلبك وبريتال وصولاً الى جونيه وطرابلس وصيدا وعدد كبير من بلدات الجبل والجنوب والشمال. فنحن مولعون بالمبالغات. والقراءات في المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية، مع استثناءات محدودة، راوحت بين الزوايا الضيقة والطرق الواسعة. فهي إما اختصار ما حدث بسبب وحيد، وإما تكبير الانتصارات الى حدود خيالية. لا بل ان بعضها توقف في الشكل أمام وقائع الانتخابات ليعبر في المضمون عن مواقف من تحالفات استجدت وبينها تفاهم معراب الذي أربك قوى متعددة رسمت سياساتها على قاعدة الصراع بين طرفيه.
والواضح، بصرف النظر عن الأسباب، ان قادة القوى المسيحية تصرفوا في التحضير لمعركة بيروت كأنهم ضيوف على الرئيس سعد الحريري في لائحة البيارتة، لا شركاء في اللائحة والمعركة والعمل البلدي. والواضح أيضاً أن القواعد وجدت نفسها أقرب الى لائحة بيروت مدينتي. لكن ما يجب أن يكون أكثر وضوحاً هو أن تركيز القراءة على عامل وحيد لن يكفي لتغطية عوامل أخرى مهمة، وخصوصاً أن لائحة بيروت مدينتي نالت في الدائرة الثالثة ضعفي ما حصدته في الدائرة الأولى.
ولا مهرب من قراءات أوسع وأعمق تجمع بين انتقاد الحلفاء والنقد الذاتي. فالانتخابات بداية لا نهاية: الفائزون تنتظرهم تحديات ومسؤوليات. والخاسرون لن يختفوا مع نحو أربعين في المئة من الناخبين صوتوا لهم وسيكونون بالمرصاد للمراقبة ومراكمة التجارب.
ولا مبرر، تكراراً، للحديث عن أم المعارك في انتخابات بلدية على أرض بلد مأزوم سياسياً واقتصادياً، ومحكوم بشغور رئاسي يقترب من عامه الثالث ومجلس نيابي ممدد له ومعطل ومجلس وزراء مهلهل. بلد ينتظر نهاية حروب سوريا والعراق واليمن، ولا يزال يراهن على وعد بتكرار المحاولات الفرنسية مع الرياض وطهران على أمل فتح الطريق الى انتخاب رئيس للجمهورية.