بمثل هذا اليوم، حيث تحتفل الأمهات كافة بعيدهنّ، تمضي سهى ساعاته الثقيلة على أمل أن تحظى بغمرة من علي عبد الهادي. صغيرها الذي حرمت منه بعد ولادته بأيام بتواطؤ المجتمع والشرع والقانون. أخفاه والده عنها. صار عمره سبع سنوات تستغيث لاسترجاع حق حضانته الذي حرمت منه بموجب حكم شرعي صدر عام 2015 كان عبارة عن ورقة تنازل مختومة من هيئة التبليغ في مكتب الشؤون الشرعية التابع للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
سنوات أمضتها سهى تبحث عن صغيرها، تستجمع صوره عبر المعارف والأصحاب، بلَغَها دخوله المدرسة فصارت تتعقّب أولاد المدارس. قالوا لها إن الشبه بينه وبينها كبير. حكّمت إحساسها وانطلقت في رحلتها. من ضحكة عينيه وغمازته الصغيرة عرفته وصرخت أنه هو. توسّلت العالم لتراه. لحظة دخل انتابتها نوبة بكاء وصار قلبها يخفق بسرعة. ومثلها كانت حاله «شعرتُ بخفقان قلبه على يدي التي أمسكت بيده الصغيرة». سألها لمَ تبكين؟ «اشتقت لرؤيتك» قالت. سألته هل تعرف من أنا أجابها «أنت ماما».»كانت تلك أجمل كلمة سمعتها في حياتي» تقول سهى وتستسلم للبكاء. أخذوا ابنها منها مجدّداً، سيعود يوماً «لأني أمّه» لكنّ رحلتها لتحقيق ذلك طويلة «لو كنت رجلاً لتعاطى معي المجتمع بشكل مغاير. وحدي أحارب وسط اتهامات من حولي»أبصر شو عاملي حتى حرمها ابنها».
قبل عشر سنوات تزوّجت سهى سلامة (28 سنة) من ربيع صابر القطنه، سوري الجنسية في الأربعين من عمره. بعد مرور 52 يوماً على زواجها هربت من منزل الزوجية «اكتشفت أن زوجي يستغلّني جسديّاً، يحتاج إلى زوجة تنجب له ولداً بعد فشل محاولاته من زواجه الأول ويريد أخذ الطفل ليتربّى في كنف زوجته السابقة التي تبيّن، وخلافاً لما قاله، أنه لم يطلّقها».
بحرقة وقهر نابعين من القلب تروي سهى قصتها. كانت في العشرين من عمرها يوم تزوّجت. ظنت أنها ستخرج إلى عالم ملؤه الأمان والاستقرار، لكنّها خذلت في زواجها وحرمت من ابنها بموجب «حكم شرعي». فلسطينية الجنسية لأم لبنانية لم يكن من السهل أن تحظى قضيتها بالمتابعة. كلّما طرقت باباً من أبواب الجمعيات التي تدعي حماية أمثالها يعتذرون منها بحجة أنها فلسطينية، لم تشفع لها جنسية أمها اللبنانية، فكيف الحال إذا ارتبطت بسوري «طوال فترة الزواج لم يزر بيتنا الزوجي أكثر من خمس مرات. مجرّد أن علم أني حامل صار يقفل باب المنزل بالمفتاح ويمنع خروجي منه، باعتقاده كانت تلك حياة طبيعية».
ورقة حرمتها من طفلها
طلبت الطلاق، وعادت إلى منزل أهلها لتعيش مع والدتها وإخوتها في شقة اجتاحتها الرطوبة وغلبت على جدرانها معالم ظلمة العيش وضيق الحال. وحين امتنع عن طلاقها، استعانت عليه بشرع الله «قصدت المجلس الشيعي لطلب الطلاق. اعتقدت أن قاضي الشرع سيضمن لي حقوقي الزوجية. شكوت تهديده لي ببيت الطاعة وأنه سيحرمني طفلي. قال لي القاضي لا يوجد في الدين شيء اسمه يأخذ ابني. هذا طفلك». لكن اطمئنان سهى لم يدم طويلاً «اتفقنا على الطلاق بحضور زوجي، وطلب مني القاضي التوقيع على ورقة تضمن حضانتي قائلاً إنه على أي حال سيسجن بقضايا مرفوعة بحقه، وستكون الحضانة من حقك».
نفّذت طلب قاضي الشرع «لم أشكّك بكلامه لاعتقادي أني في مكان سيحميني وابني وسيحافظ على حقوقي. لكني اكتشفت لاحقاً أنني وقّعت على تنازل عن حقوقي كزوجة وأم، ولا يحق لي رؤية طفلي ولو ليومين نهاية الأسبوع إلّا بعد موافقة زوجي».
رغم أنها كانت في العشرين من عمرها إلّا أن سهى لم تقرأ الورقة التي وقّعت عليها «كنت على قناعة أن شيخ الشرع لن يسلب حقي وسيحكم بالعدل، أعلمته أني كنت مسجونة في غرفة بلا هاتف وممنوعة من التواصل مع أهلي. اعتقدتهم يخافون الله». مرّت الأيام، واجهت سهى صعوبات أثناء الولادة ما استوجب بقاء الطفل في المستشفى لأيام. كانت تزوره خلالها لإرضاعه، وفي اليوم الثالث سبقها والده إليه وأخرجه من المشفى «اتّصلت لأسأله عن الطفل فقال لي نحن في طريقنا إليك ولكن سآخذه لمدة ساعة لكي يراه والدي وشقيقتي. أرضعته ثم غادر به، ومنذ ذلك الحين لم أعد أراه. انقطعت أخباره عني ولم أعد أعرف محل إقامته».
لم يكن تصرّف الطليق ينمّ عن تصرف شخص عادي. المتعارف عليه في لبنان أن المحمي وحده بإمكانه التفلّت من القانون والانقلاب على الشرع، وهذا ما لمسته سهى لاحقاً «قصدت المجلس الشيعي لمراجعة القاضي الذي أقنعني بالتوقيع على التنازل، فكان الجواب إما غير موجود أو ممنوع الدخول أو ينصحونني بالتوجه نحو هذا وذاك وكنت أفعل لأنني مضطرة لكني اكتشفت أن أيّاً من الأشخاص الذين قابلتهم لم يفدني، ويتوجب عليّ أن أقدّم شيئاً بالمقابل. عرضوا عليّ عقود متعة مقابل حلّ قضيتي» لم يكن من السهل أن تكشف سهى ما كشفته عن عقود المتعة وتقحم نفسها في موضوع تحاذر السيدات المطلقات إثارته خشية العواقب التي قد تتعرّض لها لكنّها تصرّ: «هذه حقيقة موجودة وحصلت مع أمهات غيري سابقاً لكنهنّ يخجلن من الحديث بالموضوع». تفرّعت مشكلة سهى، الأم المطالبة بحقها في حضانة طفلها، صارت عرضة للاستغلال وإلّا فقضيتها خاسرة حكماً «بشع أن تضطر الأم لخسارة نفسها جسدياً ومعنوياً مقابل أن تربح حضانة طفلها». بعد الولادة رفعت سهى دعاوى إثبات زواج ونسب وأمومة «وفي كل مرة كنت أخسر أمام معارف طليقي وعلاقته بالقضاة الشرعيين وواسطته وتغيّبه المستمرّ عن الجلسات» ولم يكن القانون أفضل حالاً من الشرع وأسرع «تقدمت بدعاوى أمام المحاكم القانونية لكن الأمور تسير ببطء شديد لدرجة أنه يعيش حياته بشكلها الطبيعي بينما صدرت بحقه جملة مذكرات توقيف غيابية».
وحدها قرّرت أن تواجه مجتمعاً لا يزال يشكك في سلوكها لمجرّد أنها حرمت من صغيرها اعتقاداً منه أنها أهل للقصاص وإلا لما كان زوجها حرمها طفلها «لم ألقَ تشجيعاً إلا من «غروب» السيدات أمثالي على مواقع التواصل ومن والدتي وشقيقتي بينما شكك الآخرون بنيتي واتّهموني أنني أبتزّ طليقي طلباً للمال» بينما الحقيقة «أنني كنت وحدي بلا سند وإمكاناتي المادية لم تكن تسمح لكنّي قررت المواجهة مجدداً ورفعت دعوى عن طريق محامٍ. ولكن للأسف حتى الناس الذين كان يجب أن أحصّل حقي من خلالهم بالقانون كنت عرضة لاستغلالهم».
حين عرضت سهى قضيتها أمام وسائل الإعلام «ورغم كل ما قلته وما تعرضت له من طليقي فالناس لم ينزعجوا إلا من قولي إني تعرّضت للابتزاز ولاموني حين تحدثت عن موضوع يعدّ «تابو» في المجتمع اللبناني «لو سبق ووافقت على عقد متعة مع أحد لكان ابني في حضانتي لكني مستعدة لأن أنتظر مئة عام على ألا يعلم ابني لاحقاً أنني كنت عرضة للاستغلال». تشتكي سهى من ظلم المجتمع المحيط لكونها امرأة «لو كنت رجلاً لتعاطفوا معي لكن كوني امرأة أتعرّض للملامة ويتعاملون معي بازدراء» ملزمة هي بتبرير خطواتها كي لا تكون عرضة للاتهام وإلا «أبصر شو عاملي حتى حرمها ابنها».
منذ ولادته وهي تتحيّن فرص لقاء صغيرها وضمّه إلى صدرها «كنت أطلب من أصدقاء زوجي تزويدي بصوره، ومنذ دخل المدرسة صرت أرصده وأتتبّع خطواته وكلّما وجدت له أثراً في مكان يختفي منه فجأة. قيل لي إنه كان يسكن في بيصور وحين قصدتها لم يرشدني أحد من معارفه إلى عنوان منزله. وبعدما أثرت الموضوع في الإعلام علمت أنّهم أخرجوه من المدرسة «تتخوّف من أن يكون تم إخراجه إلى سوريا التي اعتاد طليقها أن يقصدها «تهريب» لا سيما بعد أن زوّر أوراقه الثبوتية وسجّله على اسم غير اسمي».
تلاحق دعسات صغيرها
تتحدّث عن مرحلة طفولته إلى حين دخوله المدرسة، وتشرح كيف كانت تترصّد صفوف الروضات وتتابع نشاطاتها المدرسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتتأمل ملامح كل ولد على حدة «حتى حفظت عن ظهر قلب الصفوف والمعلمات. أحتفظ بأفلام الفيديو وأعيد مشاهدتها على البطيء وأتأمل ملامح الأولاد، عيونهم، لون شعرهم، ملامحهم وأسأل معقول هيدا ابني وهذه عيناه» مستعينة بإحساسها «كنت أعلم أن اسمه علي عبد الهادي. تعرفت إليه، رأيت صورته وتأكدت من ملامحه المشابهة لملامحي إلى حد بعيد، فرحتي لم تتسع لها الدنيا ساعة وجدت صور تخرّجه من المدرسة. كان يجب أن أكون أنا والدته إلى جانبه وليس سيدة غيري سجل على اسمها زوراً».
بعد طول انتظار قابلته قبل عامين لمدة 45 دقيقة بعدما رضخ والده لنصائح من حوله، ومهّدوا للولد عن أمه»تهيبت الموقف وصرت أتخيّل تلك اللحظة. حين لمحته انتابتني نوبة بكاء هستيرية. تحوّل الحلم إلى واقع. شعره طويل وله غمازة في خده مثلي تماماً ومن شدة بكائي خاف وخرج من الغرفة ثم عاد. شعرت حين أمسكت بيده أن قلبه يدق بقوة في كف يدي». احتارت كيف تمضي دقائقها معه، تغمره أم تقدم دليلاً على أمومتها «عرضت عليه صور ثيابه قبل ولادته. قلت له هل تعرف من أنا؟ أجابني»انت ماما». فكانت أجمل كلمة أسمعها في حياتي».»
اعتقدت سهى أن مشوارها انتهى لمجرّد تعرّفه إليها وأن طليقها وزوجته سيسمحان لها بمقابلته ثانية وبعثت برسالة إلى زوجته تستنجد بها لتراه من دون علم والده «قلت لها كيف يسمح قلبك بحرمان والدة من ابنها. أخذت مكاني في كل شيء حتى بالاسم فاسمحي لي بالدخول إلى حياته بسلاسة لأتعرّف إليه وأعلمه أني لم أتركه. أبلغت زوجها بالرسالة فكان جوابهما عبر مقربين أن أنسى أنّ لي ولداً أو سأقابله مجدّداً». ومنذ ذلك الحين لم تقابله لكن ايمانها برؤيته لم ينقطع «سأبقى حتى آخر يوم في عمري أسعى لأستعيد حقي في حضانته. وأتحدى من يقول إني امرأة بلا حيل أمام الدولة» في عيدها توجه الوالدة رسالة لولدها تعاهده «لم تفارقني يوماً وسأحصل على حق حضانتك وسأستمر حتى انقطاع النفس».