IMLebanon

حلّوا عن المفتي  

 

نحن في لبنان، أمام مرحلة حرجة وخطيرة، وهي تتطلب بالتالي المزيد من الحذر والإنتباه والحكمة والإسراع بالوصول الى حلول سياسيّة، وتسويات عادلة لكل الصراعات والأزمات. ونحن أمام انسداد أفق فكري ودستوري في المشهد اللبناني. ومن غير المعروف، إذا كانت عودة تفعيل المبادرة الفرنسية، سيفتح الباب مجدداً أمام حلول سياسية وتشكيل حكومة جديدة.

 

من هنا، وانطلاقاً من حراجة الموقف، والتعقيدات المفتعلة، برزت دعوة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الى الحياد ثم الى الدعوة لعقد مؤتمر دولي، فقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن، وسط توجيه تهم مبطنة أو غير مبطنة، لصاحب الغبطة، ومعارضة شديدة للمؤتمر، حتى ان البعض ذهب بعيداً الى القول: الأمر ليس مزحة… فالتدويل قد يؤدي الى فتنة داخلية، لا يعرف الكثيرون نتائجها.

 

في الموقف الآخر، عبّرت مجموعة أخرى، عن إعجابها بما قدّمه البطريرك من آراء وتمادى أكثر، متهماً سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية بالصمت، مطالباً (هذا البعض) سماحته باتخاذ موقف مماثل للموقف الذي اتخذه غبطته، وعليه أن يكون أكثر جرأة في اتخاذ المواقف… ولهؤلاء أقول وبكل صدق وموضوعية وعقلانية: «بالله عليكم حلّوا عن المفتي».

 

ما دفعني الى هذا الموقف، تحليل دقيق لما يجري… ولماذا أفضّل صمت المفتي، ما جعلني أشيد بموقف سماحته، الذي لا يقل برأيي جرأة عن موقف غبطته، وأتسلّح في موقفي هذا ببعض الحكم أذكر منها:

 

– عندما نختار الصمت، فإنّ هذا لا يعني بالضرورة سذاجتنا، أو أننا لا نعي ما يدور حولنا بل في ذلك موقف قد يكون من أكثر المواقف قوّة.

 

– إنّ هناك فارقاً كبيراً بين السكوت خشية الكلام، والسكوت لأنك لا ترى حاجة الى الكلام.

 

– سبحان من علّم آدم الأسماء كلها، لينطق بها، وعلّمك أنت من دون أبنائه وبناته السكوت. والسلام عليك.. وصمتاً لأنّ السكوت طهارة إذا ازدحم المنشدون. صحيح ان سماحة مفتي الجمهورية، مقلّ بالكلام، لكنه إذا تكلم كان موزوناً، وكلماته محسوبة بدقة… لا ينفعل بسرعة، ولا ينجرّ بسهولة الى ما يريده الآخرون، من دون تدبّر وتفكير عميق بالإحتمالات. كما ان سماحة الشيخ عبداللطيف دريان، يدرك تماماً جسامة موقفه وموقعه دينياً كما سياسياً… وسيظل مكان ثقة، فهو يجادل من دون هوادة إذا اقتضى الأمر اللجوء الى الكلام.

 

ولأكُنْ صريحاً أكثر… فإنّ ما يمر به لبنان في هذه الأيام، يتطلب من غبطة البطريرك اتخاذ مثل هذا الموقف الذي اتخذه لاعتبارات عدّة أهمها:

 

1- ان لُبّ المشكلة اليوم هي في المركز الماروني الأول في الدولة – أعني رئاسة الجمهورية. فعون لم يترك صاحباً ولا صديقاً… عادى وتيار صهره العزيز الجميع من دون استثناء.. القوات والمردة وغيرهما مسيحياً، وأمل والمستقبل والتقدمي الاشتراكي إسلامياً… فالحري بغبطة البطريرك ومن حرصه على المركز أن يلجأ الى اتخاذ موقف قوي، يعيد الى المركز الماروني الأول، هيبته، ليظلّ هذا المركز المسيحي، عنصراً من عناصر بناء لبنان، لا عاملاً من عوامل إنهياره.

 

2- مقارنة بما ذكرناه، فإنّ المركز السنّي الاول، الذي يمثّله سماحة المفتي دريان، لا يحتاج الى مثل هذا الموقف. فالرئيس المكلف سعد الدين الحريري، رجل دولة من الطراز الرفيع، وهو يسير بخطى وطنية ثابتة نحو بناء لبنان الواحد، الذي لا يطير إلاّ بجناحيه المسلم والمسيحي.

 

من أجل هذا أقول: دعوا سماحة المفتي في حاله… وحلّوا عنه، فهو رجل الإعتدال والحكمة والرصانة.

 

3- قد يكون تدخّل سماحة المفتي في هذا الوقت، سبيلاً نحو «فرقة» سنّية شيعية، ليس وقتها ولا نريدها ولا يريدها المفتي ولا أي عاقل… لأن فتنة كهذه تُودِي بالوطن الى التهلكة… والأدلة على ذلك كثيرة:

 

ألف: ما يجري من محاولات فتنوية في العراق بين السنّة والشيعة، ما أدّى الى غرق العراق في وحل الخلافات وأتون الصراعات… ما جعل الشعب العراقي الشقيق يعاني من فقر وعوز وحرمان، بينما كان العراق في السابق من أغنى البلدان وأكثرها تقدماً.

 

باء: ما يجري في المملكة العربية السعودية من محاولات تمرير مؤامرات مذهبية، لكنها فشلت كلها لحكمة المسؤولين وشجاعتهم في اتخاذ التدابير الحكيمة اللازمة.

 

جيم: في اليمن، حيث يعاني الأشقاء هناك من قتالٍ بين الأخوة في العِرْق وفي الدين. وها نحن نرى اليمن «السعيد»، وقد أضحى غير سعيدٍ أبداً بعد تلك الحروب العبثية.

 

دال: في سوريا، الوضع أخطر بكثير، ومجريات الأمور هناك، تدل على ما نرمي إليه. نحن في لبنان، موقفنا ثابت راسخ، لا عودة الى الوراء فيه… إسلام واحد، قرآن واحد، ونحن بصراحة مع المقاومة ضد العدو الاسرائيلي… ونحن مستعدون للدفاع عن أرضنا… لكننا في الوقت نفسه، نتمسّك بوجود الدولة، وبضرورة سيطرتها على كل أراضيها من غير منازع.

 

إنّ لغبطة البطريرك موقفاً جريئاً صادقاً، لا نشك أبداً بصلابته، ولسماحة المفتي موقفاً صلباً أيضاً، لا يقلّ صلابة عن موقف صاحب الغبطة، لكن الأسباب التي دفعت البطريرك الى الكلام، ليست متوفرة عند صاحب السماحة… وإلاّ لكان سماحته، نطق وتكلم وأسكت كل الأبواق «الناعقة».

 

ولهؤلاء أقول: بالله عليكم… وحرصاً على هذا الوطن وسلامة بنيه… حلّوا عن المفتي.