IMLebanon

أبعد من أزمة التفاح … صمود موارنة الجبال على المحكّ

 

الثمرة أينعت وحان قطافها

 

حفظنا شيئاً حول التفاح وغابت عنا أشياء. فالكل يتذكر مقولة: “تفاحة كل يوم تغني عن طبيب”. لكن، قلة تعرف بوجود مقولة: “إذا لم تتذوق تفاحة سيئة أبداً، فلن تُقدّر تفاحة جيدة”. مزارعو التفاح يتذوقون يومياً العلقم فهل يعتادون عليه أم من عرف منهم قيمة التفاح اللبناني الفاخر الذي طالما كسا الجرود العالية فلن يعتاد مطلقاً على رؤية الإنتاج كاسداً وقد يأتي يوم ويثور؟ أيلول يشارف على الإنتهاء والأمطار تزورنا (بحسب النشرات الجوية) بدءاً من اليوم فهل يدرك من بيدهم مصير المزارعين أن موسم التفاح في خطر حقيقي؟

 

أمين عام “حزب الله” دعا الناس، مجاهدين وغير مجاهدين، الى الجهاد الزراعي. ممتاز، لكن ماذا عن الزراعات الموجودة؟ ماذا عن تصريف إنتاج شجر التفاح الذي يُشكل، أو كان يُشكل، 17 في المئة من الصادرات الزراعية اللبنانية؟ أليس التفاح زراعة، وكثيرٌ من الزراعات بحاجة الى أسواق تصريف خارجية لتصمد والأسواق الخارجية تلك موصدة في وجه تصريف التفاح لخيارات بعضها اتخذها الحزب الأصفر نفسه؟

 

ليست زراعة التفاح مسألة “عرضية” في لبنان، وأفولها، إذا حصل، لن يكون أمراً عادياً. فثمرة التفاح تملك من العناد ما جعلها تنبت حتى في جبال الألب العالية، وترتوي من الثلوج وتتحدى الجليد. التفاحة التي يحين في أيلول موعد قطافها، كما سكان الجبال وموارنته، تتشبث في البقاء لكن مثلها مثلهم، ومثل مزارعي التبغ في الجنوب والحمضيات في السهل، قد تختنق وتموت “على أمها”.

 

ها هو أيلول يشارف على الإنتهاء. وها هو المطر قد بدأ يهطل. وها هي محاصيل التفاح راكدة كاسدة. وها هو المزارع يصرخ والمؤسسات الزراعية التي تعنى به تصرخ فهل ستسمع الحكومة الجديدة؟ لا وقت للحكومة الجديدة العتيدة لتدرس الملفات بل عليها أن تقرر اليوم: ماذا ستفعل بمزارعي التفاح؟ هل ستجد حلولاً ما لتصريف إنتاجهم أو لتخزين إنتاجهم؟

 

مجزرة أخرى

 

هناك، في عيناتا قضاء بعلبك، ولد المطران حنا رحمة، وأصبح راعي أبرشية بعلبك دير الأحمر المارونية، وكبر بين كروم عنب وبساتين تفاح عيناتا التي ترتفع عن سطح البحر 1620 متراً. وهو يُقدّر الحياة الزراعية وصلابة أهلها وتشبثهم في الأرض والعرض والكرامة. وهو العالم أنه عندما نزرع بذرة نزرع الأمل. لكن، ماذا لو أينعت تلك البذرة وحان قطافها فلم تجد سبيلاً فذبُلت وماتت؟ يجيب المطران رحمة: “إنها مجزرة أخرى ترتكب في حق قسم كبير من الشعب اللبناني الذي يعيش من زراعة التفاح. مزارعو العنب في سهل البقاع مهددون أيضاً. العنب قد يُحول الى دبس وعرق وخل لكن كميات التفاح كبيرة جداً وبحاجة ماسة الى تصريف. لذا، نصرخ بصوتٍ مرتفع مع المزارعين: بدنا حلّ. فبين يومٍ وآخر “سيهرّ” التفاح بسبب العواصف الآتية وتصبح العودة الى الوراء مستحيلة. مزارعو التفاح يريدون حلّا الآن يواجهون به مافيات التجار الذين ينتظرون “موت المزارع” كي يأخذوا محصوله “ببلاش”. يحتاج المزارع الآن الآن الى أبواب تفتح وتعزيز إمكانيات التصدير والدعم. يحتاج المزارع الى حلول سريعة. إنها مسؤولية الدولة وهو حقّ المزارع. والألم “جايي جايي” إذا لم يتم التحرك هذا الأسبوع”.

 

الحياد الإيجابي كان مطلب البطريرك الماروني بشارة الراعي. ويومها “هبّ من هبّ” لمواجهة هذه المقولة. “فالحياد، بحسب المطران رحمة، هو إجتماعي أيضاً واقتصادي، فلبنان حين يقيم المحاور ستقفل في وجهه السبل. وهو ما يحصل اليوم. فأسواق الخليج مقفلة في وجهه” يضيف رحمة: “لبنان يجب أن يكون مبنياً على السلام الإيجابي والمناخ الإنفتاحي” فما لا يقل عن 600 ألف عائلة لبنانية تعتاش من مواسم الزراعة فإذا لم تجد تصريفاً لمواسمها فكيف ستتابع الصمود في بلد يتهاوى كثير من مقوماته؟ وإذا لم يتم تصريف التفاح “فستُخرب بيوت” المزارعين. وهذا ليس مجرد كلام مجاني. كلامنا يفترض أن يؤخذ في الإعتبار البارحة قبل اليوم. فإذا ماتت الزراعة ماتت الجذور”.

 

هل ينصت وزير الزراعة الجديد؟

مزارعو التفاح يشقون طوال السنة ليروا في أيلول وتشرين غلالهم. إنهم يدفعون ثمن الأسمدة والمبيدات بالدولار نقداً “كاش” ويستدينون من أجل الموسم ويأتي التاجر ويأخذ المحصول ولا يدفع إلا بعد أشهر. مزارع التفاح “لا معلق ولا مطلق” وحين يحلّ موسم القطاف لا يجد براداً فيه مازوت ولا كتفاً “رسمية” يتكئ عليها بل يرى الجميع يراهنون على سقوطه. فهل ذلك مقصود؟ وبعض أصحاب البرّادات أعلنوا عن استعدادهم للإبقاء على الصناديق في برّاداتهم لآخر السنة فقط.

 

سواء تقصدوا أم لا، حين يفقد المزارع ثقته بجني بعض قيمة العرق الذي يتصبب طوال السنة من جبينه، يفقد البلد أثمن ما لديه، يفقد من جذوره جذوراً. سبعون الى ثمانين في المئة من مزارعي التفاح من المسيحيين. طبعاً هذا لا يهم فالزراعة على أنواعها و”طوائفها” منهكة، فكل اللبنانيين يعانون الأمرّين من سلطة لبنانية تخلّ بكل المسلمات التي تبقي على ناسها “القانعين” أحياء. مزارعو التفاح في “العلالي”، في الجبال، في عيناتا وتنورين وكفرذبيان وفاريا وبشري، يزرعون على أمل أن يأتي يوم القطاف ليبقوا في أرضهم ويتشبثوا في جذورهم لكنهم لا يحصدون، كما في كل مرة، سوى المرارة. فمن يضمن في هذا الوقت الذي زاد فيه العلقم كثيراً بقاءهم؟ دولة مستسلمة؟ هنا تكمن كل الحكاية ومن هنا يفترض بحكومة قالت ان فيها أملاً ان تمنحهم بعض الأمل.

ما رأي رئيس تعاونية تنورين الزراعية رجاء سركيس؟

 

الجيد الى مزارعي التفاح في تنورين، كما الى كل مزارعي التفاح في لبنان، أن الموسم “عال العال” ممتاز هذه السنة. أما السيئ فهو تقاعس الدولة تجاههم هذه السنة أكثر من كل سنة. ويقول رجاء سركيس “السوق جد عاطلة وما زاد الطين بلة هو الإحتكار والإستمرار في دعم التجار بدل المزارعين. والمزارع هو جزء من المجتمع لكنه يتأثر أكثر من سواه بالرواسب السيئة المهيمنة على المجتمع. تنتج تنورين نحو 350 الى 450 صندوق تفاح، بمعدل 8 الى 9 مليون طن سنوياً، وزراعته تبدأ من 1200 متر عن سطح البحر الى 1900 متر، ما يعطي أصنافاً عدة من حيث الجودة. ويشتري التاجر الصندوق، 20 كيلوغرام بسعر اربعة الى خمسة دولارات، في حين يباع الكيلوغرام الواحد في مصر مثلاً بسعر يعادل الدولارين الى ثلاثة دولارات. اما ما يباع داخلياً في السوبرماركت فلا يزيد عن عشرين سنتاً اميركياً. التفاح يباع من المزارع الى السمسار الى التاجر، وأكثر الخاسرين هو المزارع”.

 

النفط مقابل التفاح

 

تعاونية تنورين الزراعية انطلقت مع رجاء سركيس قبل شهرين تقريباً وانطلقت في التعامل مع موضوع التفاح كإدارة أزمة ويقول سركيس “إتصلنا بغبطة البطريرك والجهات السياسية كلها لنصل الى وقت القطاف في أمان لكننا ها قد وصلنا بلا حلول. ومعلوم أن هذه الأزمة “تخرب البيوت” مئات آلاف سكان مناطقنا حيث يعتاش نحو 80 في المئة منهم من زراعة التفاح. هؤلاء كانوا يأملون بمواجهة الجوع المستشري بالقدرة على بيع إنتاجهم. كانوا يتوقعون أن يأتي موسم القطاف على شكل حبة بنادول أو إبرة مسكن، لكنهم وقعوا من جديد أسرى واقع التصريف”.

 

الأزمة أكبر بكثير مما يظن البعض. ثمة أناس يصمدون في الجبال يرون تفاحهم يسقط أرضاً ويموت. ثمة أناس يرون رزقهم في الأرض. وهذا ما قد لا يستشعر بخطره ووقعه إلا من زرعوا طوال العام ووصلوا الى وقت القطاف.

 

والحلّ؟ سؤالٌ لا يجد جواباً غالباً في لبنان!

 

إجتماعياً، التفاح مصدر صمود الى سكان مساحات واسعة شاسعة، نسبة 95 في المئة من سكانها موارنة. هؤلاء كانوا يعتمدون على أمرين في صمودهم، على شجرة التفاح وعلى تربية الماعز، والماعز كما تعلمون يتمتع بالعناد، مثلهم. الماعز ينقرض والتفاح على الأرض. فكيف يصمد هؤلاء؟

 

هل ستجد تصريفاً؟

إقتصادياً، أسواق التفاح تاريخياً ثلاث: مصر وليبيا والخليج. ليبيا كانت تستورد أيام زمان التفاح الأكثر جودة و”كان يا ما كان”. ومصر، أكبر سوق لاستيراد التفاح من لبنان، تقلص استيرادها من لبنان بعد سيل الأزمات وسقوط سعر الجنيه المصري، والبارحة حكي عن تعزيز التعاون في المجال الزراعي واستيراد التفاح اللبناني من مصر. اللهمّ أن يتحقق ذلك. أما السوق الثالث فهو الخليج وتحديداً المملكة العربية السعودية التي وضعت “بلوك” على التفاح اللبناني لأسباب سياسية لا أحد يجهلها. ماذا عن العراق والأردن؟ المملكة الأردنية كانت تستورد التفاح اللبناني لكنها عقدت أخيراً إتفاقات تجارية مع دول الإتحاد الأوروبي وباتت تؤمن حاجتها من هذه الدول. فهل يأخذ العراق التفاح اللبناني مقابل الغاز؟ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع طالب بذلك. وإذا حصل سيكون هذا حلاً الى آلاف العائلات اللبنانية لكن هل ستسارع الحكومة اللبنانية الجديدة الى تلقف هذا الحلّ وتعمل له أم أن العناد السياسي سيجعلها تطوي الطرح وكأنه ما كان؟

 

الأمر لا يحتمل لا التريث ولا غضّ النظر. مئات آلاف العائلات اللبنانية في خطر. ثمة لبنانيون ما زالوا يتشبثون في الأرض فهل سيفهمون هذه المرة أنهم في دولة لا تحتمل وجودهم ولا تتحمل مسؤولياتها؟ القرار مطلوب قبل العاشر من تشرين الأول. فلننتظر.