حرب الجبل ثمنٌ غال لإلغاء إتفاق ١٧ ايار
الموفد الأميركي فيليب حبيب: هذه هي تفاصيل
تسوية سياسية أدت الى إنتفاضة ٦ شباط
قصة حرب الجبل في الأزمة اللبنانية، قصة دقيقة وغريبة في آن. ذلك ان الخلاف المسيحي – الدرزي، هشم صداقات وتعايشاً لم يسبق أن تعرّض للاهتزاز، كما حدث في حقبة الثمانينات. وسبقت تلك الحرب، محاولات اغتيال وصدامات تركت آثارها على الساحة اللبنانية، الا ان وجود الموفد الرئاسي الأميركي فيليب حبيب، وهو من أصل لبناني، تركت فرصاً، لجعل لبنان يبتعد عن محور الحرب، ويقترب من محور التقارب.
في العام ١٩٨٢، بدأت البرقيات تحمل اخبار مفادها ان قوى من الجيش الاسرائيلي دخلت لبنان، بعد أسابيع من قيام الرئيس الأميركي رونالد ريغان بارسال متروبوليت نيويورك الأرثوذكسي فيليب صليبا الى الاردن، وسوريا ولبنان، حاملاً رسائل منه الى الملك حسين عاهل الأردن، والرئيس السوري حافظ الاسد والرئيس اللبناني أمين الجميل.
كان فيليب صليبا من قرية تقع في جبل لبنان بالقرب من بلدة الجوار، وكان الكتائبيون في اميركا قد اوغروا صدر الرئيس الجميل استياء من الحبر اللبناني الجليل، لانعدام الود بين متروبوليت نيويورك والعناصر الكتائبية في اميركا الشمالية. ويبدو ان المتروبوليت حمل معه هدايا الى العاهل الاردني والرئيس السوري والى رئيس جمهورية لبنان، الا ان استقبال الرئيس الجميل له كان ناشفاً، ومتردداً في قبول هدية مطران نيويورك الذي ابدى استياءه منه. الا ان المطران فيليب قال له انه ات وبادره بانه لم يحمل هدية معه اليه، كما فعل مع عاهل الاردن والرئيس السوري.
وترافق الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان وبعض مناطق الجبل، مع دخول القوات اللبنانية تحت ستار حماية المسيحيين، خصوصاً بعد الإغتيالات التي تعرضوا لها عقب اغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط.
في تلك الحقبة اطلق زعيم المختارة، نداءات متكررة، من أجل ازالة الوجود الغريب الذي هدد التعايش الأهلي، ويدفع بالتعايش الدرزي – المسيحي الى منزلقات خطرة تهدد بمواجهة حادة.
وهكذا عاش اهل الجبل محنة قاسية من الحصار والتعديات، وكان الاسرائيليون يلعبون دوراً خبيثاً، عن طريق زيادة التشنج بين الافرقاء.
كانت حرب الجبل، رداً على اتفاق ١٧ ايار الذي سعى الى ربط لبنان باتفاق سلام مع اسرائيل.
جاء اعلان اتفاق ١٧ا يار ١٩٨٢ مناسبة لاعلان سوريا حرباً ضارية على الإتفاق والعمل على اسقاطه، بعدما تولى الموفد الأميركي فيليب حبيب صياغته، لان عناصر لبنانية واسرائيلية كانت تعمل الى تحويل لبنان محميّة اسرائيلية.
ومع اسقاط اتفاق ١٧ ايار ١٩٨٣، كسب السوريون جولة مهمة في الصراع على لبنان، ووجهوا انظارهم بعد ذلك، الى توسيع وجودهم في لبنان وترسيخه.
انتهت حرب الجبل في صيف ١٩٨٣، بسيطرة وليد جنبلاط على مناطق الجبل ذي الغالبية الدرزية، وادت انتفاضة بيروت في ٦ شباط، الى اضعاف سلطة الرئيس أمين الجميل وعمد السوريون الى توسيع دائرة نفوذهم باستمرار.
في ١٠ آب ١٩٨٣ أوفد الرئيس أمين الجميل الوزراء الثلاثة: بيار الخوري، عادل حمية وعدنان مروة، الى زيارة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز محمد ابو شقرا في دارته في بعذران في قضاء الشوف، موفدين من قبله، ومن مجلس الوزراء، في مسعى لتسوية الوضع الخطير، على اثر تصادم الجيش مع المسلحين في بلدة كفرمتى، ولبحث المطالب الدرزية.
ويقول العميد عصام ابو زكي في كتابه محطات في ذاكرة وطن، ان تلك الخطوة دلت من الرئيس أمين الجميل بأنه يقف الآن على رأس تحالف قوي يدعمه الجيش، وان بإمكانه أن يرسم قوانين اللعبة وقد كان رد وليد بك من عيار التحدي نفسه ومن النوع الذي يجبر الجميع على إدراك حقيقة الموازين على الأرض وحقيقة وليد جنبلاط نفسه. وبصفتي آمر سرية الطوارئ في قوى الأمن الداخلي، ارسلت مع الوزراء آليتين عسكريتين وعشرة عناصر للمواكبة. وكانت طريق الوفد الى بعذران تمر بصورة إجبارية بالمختارة. عند وصول الموكب الى المختارة، أوقفنا حاجز للحزب التقدمي الاشتراكي وطلب من الوزراء الثلاثة الترجل والصعود الى قصر المختارة وبعد وصولهم الى صالة الاستقبال، تبلغوا أنهم محتجزون داخل القصر.
بعد ذلك اتصل وكيل داخلية الشوف في الحزب الاشتراكي توفيق بركات بوليد بك وأبلغه تنفيذ الأمر، فقال الأخير: بلغوا الوزير مروة المطالب، ليعمل على نقلها مع نبيه بري رئيس حركة أمل الى الحكم.
دخل ضباط اسرائيليون على خط الوساطة، وطلبوا من السيد توفيق بركات، الاتصال برئيس حزبه واخطاره بوجوب اخلاء سبيل الوزراء بالرضى أو بالقوة، فكان جواب السيد جنبلاط: اتركوهم.
في تلك اللحظات الحرجة، حصلت مواجهات بين شيخ العقل والضباط الاسرائيليين، لكن الشيخ الجليل حسم الأمر، واستسلم الاسرائيليون للارادة الدرزية، وسلموا بالواقع الجديد.
ويقول العميد عصام ابو زكي انه امام ذلك المشهد ارتسم في ذهنه موقف القائد الكبير سلطان باشا الأطرش الذي اجاز للمناضل الجنوبي ادهم خنجر في بيته، عندما أعلن الثورة على الفرنسيين.
وسمع الجميع قائمقام الشوف عصام حب الله يقول: هذا كلام رجال، وهذا موقف رجال.
هنا توجه الوزراء الى شيخ العقل قائلين: لا نريد أن تصل القضية الى حد المواجهة.
فرد سماحته: هذه قضيتنا والموضوع يخصنا. والتفت الى الضابط الاسرائيلي قائلاً: انتم الآن أسرى لدي وأنتم مطوقون كما ترون من جميع الجهات. وأوعز الى أحد المرافقين بإقفال الباب الخارجي. ويبدو ان الضابط استحقها ووجد أن الوضع قد تأزّم فحلحلها، واتصل بقيادته، وعاد الى التفاوض باللين والاعتذار عما بدر بقوله سيدي الشيخ سامحني أنا أعتذر وكذلك أبدى اعتذاره من الوزراء.
وقال شيخ العقل: الآن ليتصل الوزراء إذا ارادوا برئيس الجمهورية وليقرروا شخصياً الطريقة التي يغادرون بها.
وبالفعل أجرى الوزير حمية اتصالاً برئيس الجمهورية وطمأنه الى وجودهم بالسلامة.
وبالتشاور بين الوزراء ورئيس الجمهورية، تقرر عدم السفر بالطوافة لمحاذير كثيرة ولمستجدات ربما طرأت. وتم الإتفاق على السفر بالسيارة والانتقال الى بيروت. وعاد الجميع الى الصالون، وكرر الضباط الاسرائيليون اعتذارهم، وتعهدوا مواكبة الوزراء حتى وصولهم الى العاصمة بيروت، بعد ان اتفقوا مع الحاضرين على خط السير عبر بقعاتا – بيت الدين – دير القمر – كفرحيم – الدامور.
في هذه الأثناء حمَّل الحزب التقدمي الإشتراكي الوزير مروة مذكرة بمطالب وليد جنبلاط، طالباً نقلها الى رئيس الجمهورية بالتعاون مع المحامي نبيه بري، وكانت المطالب كالتالي:
١ – استقالة الحكومة لأنها غير قادرة على حكم البلاد.
٢ – الجيش غير مؤهل لدخول الجبل الا بالتراضي.
٣ – سحب الأسلحة الثقيلة الموجهة ضد الجبل.
٤ – إعلان موقف الحكم من وجود القوات اللبنانية في الجبل.
٥ – إعلان موقف الحكم من المطالب الواردة في المذكرتين الدرزية والوطنية.
٦ – موقف صريح من مصير المخطوفين.
٧ – موقف صريح من عدم ملاحقة المواطنين.
٨ – التعويض عن الأضرار في الجبل الناجمة عن القصف.
وأشارت المصادر الإشتراكية نقلاً عن وليد بك بأن قبول هذه المطالب هو الشرط لبدء حوار وطني، والا فإن القصف على المطار سيستمر كورقة ضغط من أجل تلبيتها.
علاقتي مع الجميل
كيف كانت وكيف اصبحت العلاقات بين الرئيس امين الجميل والعميد عصام ابو زكي الذي ازدادت صلاته وعلاقاته بالاستاذ وليد جنبلاط.
ويبدو ان العميد هو الذي يرد بنفسه على هذا السؤال، فيقول ان علاقاته برئيس الجمهورية تميزت بمد وجزر كان العامل الأهم فيها، توجس الرئيس اللبناني من العلاقة التي كانت تربطه بالاستاذ وليد، وقبله بالشهيد كمال جنبلاط. ويضيف: وعلى الرغم من انه حرص على التصرف بمهنية رجل الأمن، فقد كان منصرفاً الى عمله من دون تمييز أو محاباة طرف سياسي على آخر، الا ان الرئيس الجميل لم يغفر لي قربي من وليد بك، واعتبر ذلك دليلاً على عدم أهليتي لتقلد منصب أمني عالٍ مثل قيادة الشرطة القضائية.
ويتابع أبو زكي:
بالطبع، أنا لم أنكر أبداً صداقتي لوليد بك، وحرصي على أخذ رأيه في الأمور العامة لثقتي الكبيرة بنظرته للأمور وبقيادته الوطنية، وكنت أعلم من الخبرة بأن وليد جنبلاط لا يطلب شيئاً لنفسه، بل يهمه البلد بالدرجة الأولى، لكن فكرته عن لبنان مناقضة لفكرة الرئيس الجميل، فحصل الصدام بين الرجلين. في الوقت نفسه لم أشعر بأن عليّ أن أعتذر لشيء قمت به يخالف الضمير أو الحس الوطني، فأنا مثل كل لبناني لي انتماء ولي مشاعر وطنية وتاريخ مهني وعائلي، لكن هذه الأمور لم تدخل يوماً في أداء عملي المهني، فلم يُذكر أنني قمت خلال الحرب البغيضة بأي عمل شائن أو طائفي، كما أنني لم أتسلط، ولم أعتد على خصوم سياسيين أو أمنيين، بل كنت مهتماً بفرض الأمن بحيث ينعم به الجميع.
نتيجة لهذا الاتفاق، استطعنا أن نتسلم العديد من المطلوبين، وقمنا بتحويلهم الى النيابات العامة حسب المقتضى. وكان يتبع ذلك اصدار مذكرات توقيف بحق المرتكبين منهم، وكانت بعض الأمور تتعقد نتيجة مطالبة قوى الأمر الواقع بإطلاق الموقوفين، بعد أن تكون مذكرات التوقيف قد صدرت.
أخيراً، اتخذ مجلس الوزراء قراراً بتعييني قائداً للشرطة القضائية، وكتبت الصحف نبذة عن سيرتي المهنية ركّزت فيها على حادثة التصدي مع ضباط وعناصر ثكنة الحلو في كورنيش المزرعة لقوات الاحتلال الاسرائيلي ومنعهم من دخول الثكنة. ثم صدر مرسوم جمهوري تحت الرقم ٢٧١٢ تاريخ ٢٤/٩/١٩٨٥ يقضي بتعييني قائداً أصيلاً للشرطة القضائية.
وبتاريخ ٢٩ أيلول ١٩٨٥ أي بعد أربعة أيام على صدور قرار التعيين، استدعاني رئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميل الى قصر بعبدا، وأبلغني ما حرفيته إنني اتخذت موقفاً خلال الأحداث الى جانب الزعيم وليد جنبلاط، وبناءً عليه، وبعد أن توليت قيادة الشرطة القضائية، فيجب أن أكون لكل الأطراف دون تحيُز لأي فئة.
أجبته: يا فخامة الرئيس، لقد عملت وفق قناعتي وطبقت قسم اليمين الذي أديته عند تخرجي من المدرسة الحربية، ولم أكن منحازاً لغير الحق، وقد قمت بواجباتي الوطنية والأمنية، وأنقذت الكثير من المواطنين، وحافظت على حياتهم، وساهمت في حفظ الأمن في ظروف صعبة للغاية، ولم يكن أمامي أصلاً خيار آخر في ظل انقسام البلد وانقسام القوى الأمنية نفسها.
رد الرئيس الجميل قائلاً: إن سجلك حافل بالأوسمة والتنويهات، فأتمنى عليك أن تستمر في الشرطة القضائية كما فعلت في القطاعات الأخرى التي توليت.
واستطرد قائلاً: بدءاً من يوم غد ستنتقل الى مقر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في الاشرفية وتتخذ من مكتبك هناك مركزاً لعملك.
بتاريخ ١٤ حزيران ١٩٨٥، وبمناسبة العيد السنوي لقوى الأمن الداخلي، أقمت مع زملائي الضباط مأدبة غداء تكريمية لوليد جنبلاط في أرز الباروك حضرها النائب مروان حمادة والعقيد مهدي الحاج حسن والمقدم شريف فياض، والرائد رجا حرب، وقائد الولاء الحادي عشر في الجيش اللبناني المقدم الركن ناجي حسن وعدد من ضباط الجيش وقوى الأمن.
خلال المأدبة رحبت بوليد بك، ومما قلت: كنتم في هذه الناحية من الوطن بمثابة المنظم لحبات العقد، وكان أبناء هذا الجبل يجتمعون حولكم ليزدادوا قوة بما يستمدونه منكم من عزيمة وما يستلهمونه من دروس البطولة والتضحية، ونحن في حاجة دائمة الى أن نشد الأواصر الى قيادتكم الرشيدة، وأن حضوركم ورعايتكم هذا الحفل خير تكريم لقوى الأمن الداخلي… وفقكم الله من أجل أن يعم الأمن ربوع الوطن ووفقنا جميعاً في أن نكون جنود السلام في وطن يتساوى فيه الجميع ويقوده رجال حملوا راية العدل والحرية وأنتم في طليعتهم.
ورد الوزير جنبلاط وقال: نشكر لكم هذه الدعوة الكريمة في هذا المكان الجميل وفي ظلال هذه الأرزة التي تمثل بالنسبة إلينا كوطنيين وكلبنانيين الشيء الكثير. ونحن في هذا الجبل جزء لا يتجزأ من هذا الوطن، من هذه القوى الوطنية التي حاربت في الضاحية، في رأس النبع، في الشحار، وفي اقليم الخروب، حاربت التسلط، حاربت الاسرائيلي، حاربت الأجنبي، وحاربت جيش السلطة الفئوي. أقول هذا لأننا على مشارف مرحلة جديدة قد تكون أخطر من المرحلة السابقة. إن العدو لا يزال على أرضنا في الجنوب، هو وعملاؤه وقد يتربص لغزوة جديدة للبنان.
وختم وليد بك: نحن اذ نجتمع تحت راية هذه الارزة نريدها دائماً أن تكون وان تبقى أرزة وطنية، عربية، تقدمية. بكل ما في هذا من معنى.
بداية عام ١٩٨٦، واثناء وجودي في مكتبي في ثكنة المقر العام، دخل عليّ العميد انطوان خوري، وهو صديق عزيز، وهمس في اذني قائلا ان فخامة الرئيس امين الجميل سيزور المقر العام اليوم. وهذه مناسبة كي اجتمع به وتتم الصلحة وتنجلي القلوب. نظرت من النافذة فوجدت انتشارا امنيا مكثفا في محيط المديرية تنفذه وحدات من الحرس الجمهوري، وهذا يدل على ان رئيس الجمهورية سيزور المنطقة، وقد تأكد لي ما قاله العميد خوري للتو.
غادرت مكتبي قاصدا المفرزة القضائية في صيدا بعد ان استقليت المركبة العسكرية. وعلى الطريق بدأ طلبي على جهاز اللاسلكي، لم أرد على النداء مما دفع مدير عام قوى الامن الداخلي اللواء عمر مخزومي شخصياً ان يتولى مناداتي بصوته، الا انني تابعت سيري كأن شيئاً لم يكن ولم أبالِ للنداء. وصلت الى مقر المفرزة القضائية في صيدا، وبعد أن تفقدت عناصرها، مكثت فترة وجيزة علمت خلالها ان الرئيس امين الجميل غادر المقر العام. وعدت الى مكتبي في ثكنة المقر العام، حيث رأيت الدهشة والاستغراب على وجوه الزملاء الضباط، وعلمت ان اللواء مخزومي يريدني في مكتبه، دخلت عليه فوجدته منفعلا وخاطبني قائلا: يا عصام خربت بيتك، كيف تجرؤ على التغيب عن اجتماع يحضره رئيس الجمهورية؟، واردف قائلا: ان الثمن سيكون غاليا جراء هذا التصرف. لقد سأل عنك الرئيس اكثر من مرة واستغرب عدم تبليغك.
ويقول العميد عصام ابو زكي ان نتائج حرب الجبل، ثم انتفاضة ٦ شباط في بيروت، ادت الى الفراغ الأمني الذي كانت تعاني منه مدينة بيروت الغربية والضواحي. فقد تمّ اخراج قوات الجيش اللبناني من بيروت، واصبحت السيطرة العملية على الارض للاحزاب والقوى المختلفة، وهذا في وقت كانت اعراض الفساد والتسلط، بل والارتكابات المختلفة، قد تسلّلت الى صفوف الميليشيات وقامت نزاعات نفوذ وصراعات بين أمراء حرب صغار ذكّروني بقبضايات الاحياء في طرابلس عندما كنت قائداً للمدينة اواجه مناخاً أمنياً هشاً.
ومن الطبيعي انه، في غياب الدولة، ان تقوم على الارض قوى كثيرة وان تدخل تلك القوى في نزاعات يومية في غياب قوة القانون التي كانت قد ضعفت كثيراً. كانت ممارسة دور رجل الأمن في تلك الظروف من الامور المعقدة التي تحتاج الى متابعة يومية والى بناء علاقات مع قوى الأمر الواقع. لكن رغم هذا الوضع، فقد سعينا لان نحافظ على كرامة المؤسسة العسكرية وان نبقيها في منأى عن التآكل الاخلاقي والمعنوي الذي كان قد انتشر. وكان حفاظنا على ثكنة الحلو وعلى سريّة الطوارئ في فترة معينة، ثم على القوى التي كانت في امرتنا عند تسلمنا لقيادة القوى الأمنية في الغربية اقصى ما يمكننا فعله، وكان أضعف الايمان كما يقال.
لقد كان السلاح في كل مكان، لكننا فرضنا نفسنا كقوة اساسية او كقوة وساطة وحل للنزاعات، بدا ان الجميع يقبلون بها، ويعترفون بالحاجة اليها، وكان العامل الاهم الذي مكننا من ذلك علاقة الاحترام والثقة التي كانت تربطنا بالقادة السياسيين والعديد من القادة الميدانيين للاحزاب.
لكن العميد ابو زكي كان يقول ان النيّات الايجابية جعلت المعارك احياناً تخلف فراغاً أمنياً، وتتيح الفرصة لتمرير تسويات واتصالات عديدة.
لكن بعد مرور اشهر على اخراج الجيش اللبناني من بيروت الغربية في ٦ شباط ١٩٨٤ على يد الاحزاب والميليشيات المدعومة من سوريا، انقضّ تحالف الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل في بيروت الغربية على المرابطون، وجرى احتلال المركز الرئيس للحركة في جامع جمال عبد الناصر ومبنى اذاعة صوت لبنان العربي الناطقة باسم الحركة.
وفي نيسان ١٩٨٥، اندلعت اشتباكات بين قوات المرابطون وميليشيا حركة أمل. وبعد ان مالت الكفّة لصالح قوات المرابطون اوعزت سوريا الى الحزب التقدمي الاشتراكي وقوات الحزب الشيوعي اللبناني بالقتال الى جانب حركة أمل، رغم المنافسة بين الحزبين وأمل. دامت المعركة نحو ثلاثة ايام وانتهت بالقضاء التام على المرابطون، وهو التنظيم الناصري المنحاز لمحور عرفات ضد محور حافظ الاسد، وكان رئىس الحركة ابراهيم قليلات خلال هذه الاحداث خارج لبنان وظل مبعداً حتى تاريخه.