ترقب لمؤتمر «المستقبل» في 25 تموز
ليست الحركة الأخيرة للرئيس سعد الحريري من فراغ. ورغم كل ما يقال حول عدم نيته العودة الى الحكم، هو يفتقد اليوم لـ«أوكسيجين» السلطة التي غادرها عن قناعة بعد أيام من اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول الماضي.
في بيئة زعيم «تيار المستقبل» من يتحسّر على قرار الحريري بالخروج من جنة الحكم، لعلمه أن الثمن لن يتوقف عند إخراج المقربين منه في إدارات الدولة، وليست التعيينات المالية سوى مثالا أوليا على ذلك، بل إن العودة نفسها يبدو أنها باتت بعيدة المنال في ظل العهد الحالي المستمر نظريا لنيف وعامين مقبلين، وسط تساؤلات حول إمكانية الفراغ من بعده وما إذا كانت ستسبقه الانتخابات النيابية بعد نحو عامين أم لا.
استعاد البطريرك الحويك
منذ تولي الحكومة الحالية، بدت خطوات الحريري في المعارضة متعثرة. فقد حاول «المستقبليون» تشكيل جبهة للمعارضة من قوى افترضوا مخاصمتها للواقع الحكومي، لكن تلك القوى لم تستجب للحريري ومنها أقرب حلفائه الزعيم «الإشتراكي» وليد جنبلاط، ناهيك عن رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي بدت العلاقة معه في أوائل العام الحالي متوترة. ومع هذا التعثر، كان من الطبيعي أن لا يستقطب الحريري بعض من في الحكومة عبر رهانه على الرئيس نبيه بري وزعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية، وهو كان في الأصل رهان غير صلب العود في ظل الغطاء الحكومي غير القابل للنقاش الذي وفره «حزب الله»، حليف بري وفرنجية.
مع الوقت وبعد بحث طويل وفي ظل ظروف تنحو نحو الأسوأ، يشرع الحريري في خطوات مشابهة تبدو الظروف متوفرة أكثر لها، لكن في إطار مشروع طويل الأمد.
وبينما يستعين على حوائجه تلك بالكتمان، اختار المبادرة نحو المرجعيات الدينية المسيحية لـ«تظهير صورة لبنان» على حد تعبير القيادي في التيار الدكتور مصطفى علوش لـ«اللواء» «في ظل انقسام نريده وطنياً وليس طوائفياً».
هي محاولة لبداية استيعاب أقله جزء من المسيحيين، عبر مرجعية البطريرك الماروني بشارة الراعي وتلك الأرثوذكسية لمتروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة. لا يغيب هنا الظرف التاريخي للمرحلة في البلاد التي تقترب من مئويتها الأولى بعد أسابيع «مع ما تمثله خطورة الانقلاب على تاريخ البلد كما اعتقد فيه البطريرك الياس الحويك».
ولا يمكن فصل زيارة بكركي عن الكلام الاخير للراعي الذي وجهه الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعه «حزب الله» في شكل غير مباشر. إنها مبادرة في وجه طموحات ضيقة وشخصية رئاسية تجاهلت منطق السيادة ومعنى لبنان، كما يشير علوش الذي يلفت الانتباه الى أن التحرك هو لتصليب العود ووضع الامور في نصابها، وفي الوقت نفسه تشكيل جبهة مواجِهة لما أوصل العهد لبنان إليه.
هي جبهة «يجب ان تتكون وفق قناعات ومبادىء من كل اللبنانيين المقتنعين بها وليس إعادة رؤية 14 و8 آذار، بل هوية لبنان التي تتخطى المعسكرات والاصطفافات الطائفية التي جربناها جميعا على مدى تاريخنا الحديث. وفي هذه اللحظة الخروج من تلك المعسكرات هو ما يضمن هوية لبنان».
نضوج اللحظة السياسية
يتوقف علوش طويلا عند المتغيرات التي طرأت بعد 17 تشرين والتي يجب أخذها في الحسبان. اليوم، هناك تدهور هائل حاصل في ظل زيادة العقوبات الاميركية والتراجع الكبير لسعر صرف الليرة إزاء الدولار، وبات الآن هناك وضوح في الرؤية وهو ما لم يكن واضحا في الايام الاولى لتشكيل الحكومة حين تمت الدعوات الى جبهة معارضة.
وبالنسبة الى القيادي «المستقبلي» فالمشكلة الأساسية هي سياسية في الدرجة الاولى، ويجب تشخصيها لمعالجتها وإظهار بأن «من غير الصحيح أن لبنان منساق وراض بالخيارات التي يتخذها «حزب الله» أحادياً وهناك رأي عام في البلد لا يرضى بذلك».
عودة بلا باسيل والحزب؟
ثمة من يشير الى أن الحريري يرغب بالعودة، وبمجرد وضعه الشروط لها فهو يعد قابلاً بها. وهناك من يقول إن زعيم «المستقبل» يريد العودة على رأس حكومة من المستقلين، أي بمعنى آخر، من دون رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ومن دون وزراء لـ«حزب الله».
«التحليل الاول يتضمن الثاني». يقول علوش. فحكومة المستقلين تتطلب عدم وجود وزراء سياسيين حتى من قبل «تيار المستقبل». لكنه يضيف شرطا ثالثا تحت عنوان «حكومة ذات صلاحيات مطلقة واستثنائية في السياسة والاقتصاد وهذا هو المنظور الإنقاذي الذي يريده الحريري لعدم عرقلته». إلا انه يؤكد في المقابل، إن وضع الحريري للشروط لا يعني رغبته في العودة، لا بل إنه واضح في ابتعاده عن الرئاسة الثالثة «ومن الجلي من القابضين على السلطة في هذه اللحظة السياسية، سواء (رئيس الجمهورية) ميشال عون أو (السيد) حسن نصر الله فإن ذلك غير وارد بالنسبة إليهما وهما حاصلان على الغالبية في الحكومة.
لإعادة النظر بالتصنيع والزراعة
في هذه الاثناء تداولت البلاد على نطاق واسع ما خرج به السيد نصر الله لناحية التوجه شرقا ووضع الاولوية للشأنين الزراعي والصناعي، وهو ما يعني بكلام آخر وضع السياسات الاقتصادية التي جاءت بها الحريرية جانبا.
يتوقف علوش هنا: لنعد الى بداية مرحلة الازدهار لـ«حزب الله» على مختلف المستويات، هي بدأت في عهد الحريرية في التسعينيات كون النظام الاقتصادي الحر وفّر إفادات هائلة للحزب وخاصة وسائل الربح من النظام المصرفي المرن، واليوم وبعد العقوبات، بدأوا يتحدثون عن واقع جديد.
والحال أن كثيرين يأخذون على الحريرية تولية الاقتصاد الريعي على حساب الانتاجي، لكن علوش يعود بالتاريخ الى السنوات منذ العام 1992 «حين كان القطاعان الصناعي والزراعي في أكثريته الساحقة في يد وزراء ما يسمى اليوم بالممانعة، والسؤال هو: ما التقدم الذي حصل في هذين القطاعين منذ ذلك الحين؟ أما الحديث الآن، فيأتي بعد أن وقع الدب بالجب!».
ويشير الى أن الحزب اليوم لا يلجأ الى رمي الاتهامات، بل طرح مقبولية الغرب والشرق، وهو ما يعني تراجعا عن كل السياسات السابقة واعترافا بالحريرية السياسية بمعنى الانفتاح على الجميع وقبول المساعدات حتى لو أتت من الغرب بقروض جديدة، أي التأكيد على الحريرية ومحاولة الانقاذ عبرها، أي الإنقلاب.. بالمزيد منها».
لكن «المستقبليين» يقرون بالحاجة الى إعادة النظر بسياسات التصنيع والزراعة وخاصة ما هو ممكن فيهما ووضعهما تحت سلطة الدولة. وهذا ما تحدث عنه الرئيس الراحل رفيق الحريري «بكلامه عن الزراعة النوعية ذات المردود الجيد والتي تحمي المواصفات ويمكن تسويقها في العالم، وليس عبر الزراعة العضوية كما حصل في حقل البطاطا مثلا التي حرقت التربة في البقاع لنحو 40 سنة عبر استخدام المواد الكيميائية للانتاج وتسميم التربة».
لكن في ظل بلد بحجم لبنان ونقص في المواد الأولية «من الممكن أن نستفيد عبر صناعات وزراعات نوعية وتكنولوجية ومعرفية، لكن يجب التأكيد أن الاقتصاد المنتج في حاجة للعنصر المصرفي والسياحي والمعرفي».
الحريري يصعد بعد هبوط؟
لا شك أن الحريري يواجه تحديا على صعيد شعبيته المتراجعة وهو ما أفرزته الانتخابات النيابية بوضوع، وإن ساعد القانون النسبي على ذلك.
لعله استدرك بعضا من ذلك مع تقديم استقالته بعد قليل على احتجاجات 17 تشرين، وهو ما يُقر به علوش الذي يشير الى أن شعبية الحريري وصلت الى المستوى الأدنى لها خلال وجوده في الحكم، لكن ربما استرجعت بعض مواقعها بعد الاستقالة «إلا أن الوضع سيىء لدينا ونحتاج الى خطاب ورؤية سياسية واضحة».
ويعرب عن اعتقاده بأن ما يقوم به زعيم «المستقبل» اليوم من نشاط في مختلف الاتجاهات و«المؤتمر المقبل المرتقب في 25 تموز الحالي في مجمع «البيال»، سيفيدان في تركيب الهيئة القيادية للتيار في شكل قد يكون أكثر فاعلية، وربما يؤديان الى توفير بعض المكاسب التي يجب أن تكون أوسع من التيار في اتجاه المستوى الوطني».
وبشحذه هذه الأسلحة، يستطيع الحريري توجيه الطلقات في اتجاه اخصامه. «نريد إنقاذ لبنان. وأيادينا ممدودة الى العهد إذا وجد أن في استطاعته أن يتغيّر ويذهب في هذا الاتجاه. أما الحكومة فهي غير موجودة وهي عبارة عن قوى سلطة تديرها، وكنا سنؤيد أي خيارات صحيحة كانت ستتخذها في بداية عملها، لكن فشلها واستمرارها بسياسة إلقاء اللوم على الآخرين أدى بنا الى أن نسحب الغطاء عنها».
أما لناحية الحل في معضلة البلاد، فتتمثل رؤية علوش في قبول «حزب الله» الذهاب الى تسوية وطنية تضع سلاحه تحت سلطة الدولة، «ويمكن حينها إنقاذ لبنان وتجنيبه الجوع والمزيد من التدهور ورؤية ديموغرافيا وجغرافيا سياسية جديدة خاصة بين لبنان وسوريا».