IMLebanon

تحريك مضبوط لتغيير محدود

أولى ثمار الاتفاق النووي أو نتائجه، ما يحصل اليوم في لبنان. وإذا كانت الأزمة السورية تطلّبَت مبادرة إيرانية، فإنّ الوضع في لبنان يتطلّب تحريكاً للجمود أو الستاتيكو السياسي، من أجل الوصول إلى تسوية سياسية موَقّتة تضمَن وتُكرّس الأولوية الدولية-الإقليمية المتمثّلة بالاستقرار.

التسوية المطلوبة اليوم في لبنان عنوانها واضح ومحدد، وهو تحصين هذا البلد من أجل تمكينه من اجتياز أو مواكبة مرحلة ما بعد النووي، والتحصين يَعني إقفال الثغرات السياسية التي يمكن أن تهدّد الاستقرار في لبنان، حيث إنّ الفراغ والجمود والانقسام والتحَلّل باتت تُشَكّل مجتمعةً خَطراً وتهديداً على الأولوية الغربية والإقليمية المتمثّلة بتحييد لبنان عن الأزمة السورية وأزمات المنطقة الساخنة، لأنّ استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيَجعل الساحة اللبنانية تنضمّ إلى الساحة السورية، ولذلك المطلوب دفعُ هذه الأوضاع قدُماً مِن أجل تخريج التسوية التي تعيد الروح إلى المؤسسات وتُبقي لبنان في غرفة الانتظار.

فالتسوية الموعودة لن تكون أقلَّ مِن طائف وأكثرَ من دوحة، بل مجرّد إعادة ترتيب للأوضاع برعايةٍ خارجية الخاسرُ الأكبر فيها سيكون العماد ميشال عون الذي كان بإمكانه لو بادرَ وتراجَع عن ترشيحِه أن يجَنّبَ لبنان هذه الكأس وأن يتجنّب شخصياً التسليمَ بتسوية خارجية تُخرجه قسراً مِن المعركة الرئاسية، وأن يكون أحدَ الناخبين الأساسيين في الانتخابات الرئاسية.

وإذا كان نجَح العماد عون بحجز الرئاسة طيلة هذا الوقت، فلأنّه لم يكن هناك مِن قرار دولي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، أمّا وأنّ هذا القرار قد صَدر، فعلى الجميع التسليم بنتائجه.

واللافت أنّ عون ساهمَ من دون أن يدري بالوصول إلى هذه اللحظة من خلال التعطيل المتمادي الذي استخدمَه في كلّ الاتجاهات، ظنّاً منه أنّه سيتمكّن عبر هذا التصعيد من فرض أمرٍ واقع يَفتح أمامه أبواب قصر بعبدا، غير أنّ هذا التعطيل شكّل جرَس الإنذار للتدخّل الدولي السريع من أجل حماية الاستقرار في لبنان.

فلا تغيير في قواعد الاشتباك في لبنان، ولا تعديل في ميزان القوى لمصلحة أيّ طرف من الأطراف، بل جُلّ ما في الأمر أنّ طهران تجاوبَت مع المساعي الدولية كبادرةِ حسنِ نيّة لإعادة انتظام الوضع في لبنان، ولكنّ المشكلة كانت في أنّ «حزب الله» يريد تجنّبَ الإحراج مع العماد عون، فضلاً عن أنّه شديد الحِرص على استمرار التحالف معه، وبالتالي السيناريو الوحيد الذي يَحفظ فيه الحزب ماءَ وجهه حيالَ عون يكون بالقفز فوقَه رئاسياً عبر افتعال أوضاع شعبية تفضي إلى هزٍّ مدروس ومحدود للاستقرار يقود إلى تدخّل دولي لفرضِ تسوية سياسية تُعيد الوضع في لبنان إلى مساره الطبيعي.

فلا مؤشّرات إلى وجود نيّات لتحويل لبنان ساحةً ساخنة، بل التقاطعُ الدولي-الإقليمي ما زال قائماً على ضرورة الاستقرار في لبنان. أولوية طهران هي أولوية «حزب الله» التي ما زالت نفسها: التهدئة في لبنان من أجل التفرّغ لسوريا. أولوية السعودية هي استمرار التهدئة في لبنان بأيّ ثمن. الأولوية الغربية هي استمرار الاستقرار ربطاً بأمن إسرائيل وأمن اللاجئين السوريين.

ولذلك لا تَغيير في قواعد اللعبة الأساسية، وإيران بعد النووي لن تقعَ في خطيئة إسقاط التوازن في لبنان الذي أعيدَ الاعتبار له مع حكومة الرئيس تمام سلام، لأنّ أيّ خطوة من هذا النوع ستَضع طهران في مواجهة مع المجتمع الدولي، وستكون كمن يفتعل مواجهة مع الدوَل الخليجية، في الوقت الذي تعمل على طمأنتِها، والأهم من كلّ ذلك أنّ وضع لبنان رسمياً تحت القبضة الإيرانية سيَجعل الساحة اللبنانية نسخةً طبق الأصل عن الساحات السورية والعراقية واليمنية، الأمر الذي يُدخِل «حزب الله» في حرب مذهبية تؤدّي إلى تعطيل دوره الإقليمي، وانحسار سلطته على القرار السياسي إلى داخل المربّع الشيعي.

ويخطئ كلّ مَن يَعتبر أنّ لبنان يشكّل استثناءً في هذا المجال، والتجربة التي حصَلت إبّان حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قدّمت أكبر دليل على أنّ الأزمة السورية معطوفةً على الربيع العربي استنهضَت الحالة السنّية، ما يَعني أنّ أيّ هيمنة شيعية ظاهرة ستقابَل بردّ عنفيّ سنّي، الأمر الذي يُدخِل لبنان في دوّامة العنف الموجودة في المنطقة.

ولكلّ هذه الاعتبارات وغيرها، تريد طهران ترييحَ «حزب الله» لا إرباكَه، ومِن هنا الاتفاق السعودي-الإيراني على تحييد لبنان ما زال ساريَ المفعول، وأيّ تغيير محتمَل ومرتقَب سيكون تحت سقف هذا التفاهم، كما تحت سقف المظلّة الدولية وتحديداً الأميركية.

ولأنّ مرحلة ما بَعد النووي طويلة ومتشعّبة ومتعرّجة، ولأنّ هذه المرحلة وظيفتُها مقاربة ومعالجة الملفّات القائمة وليس استحداث ملفات جديدة، ولأنّ وضع لبنان أو التفاهم الدولي-الإقليمي حوله بأن يكون مستقرّاً، فالمطلوب بوضوح أن يستمرّ هذا الاستقرار.

وعليه، بدأ لبنان يشهَد تحريكاً مضبوطاً لأوضاعه بغية الوصول إلى تغيير محدود في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. فالدينامية التغييرية انطلقَت تحت السقف الدولي والسعودي-الإيراني، والنتائج المرتقَبة لهذا التغيير ستكون تكريساً لميزان القوى القائم، لا أكثر ولا أقلّ…