«طاولة الحوار» اسم لما يمكن الاصطلاح على تسميته بالمؤسسة الموازية. تستمد حيثيتها من تعطّل في المؤسسات الدستورية، ويساءل من ثم عن دورها في تجذير هذا التعطّل أو التعايش معه وبأي أكلاف.
هذه الطاولة الآن عمرها تسع سنوات. لا يمكن لأي «تاريخ دستوري للجمهورية الثانية» أن يتفادى العروج على تجربتها، ليس فقط كـ»مؤسسة موازية»، بل أيضاً كمؤسسة لا تنحصر زمنيتها بمواعيد التئام أقطابها، وانما بتعاقب مواقيت ظهورها واختفائها فظهورها مجدّداً، علماً أن القوة التي منحت هذه الطاولة دفعاً ما، على الرغم من ولادتها بعد سنة واحدة على انتخابات نيابية وليس في مرحلة تعطل هذه الانتخابات كما هو حاصل منذ سنتين، هي قوة التراضي بين أقطابها على اللائحة التي تضمهم، فنحن أمام «مجلس حيثيات» بمعزل عن الأحجام، وبمعزل عن التمثيل النيابي كمعيار للحيثية.
تشكّلت طاولة الحوار قبل تسع سنوات بمبادرة من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بعد تصاعد حملة تقصير المدة الممددة لإميل لحود وعدم تمكن هذه الحملة من بلوغ هدفها في الوقت نفسه. هي «مؤسسة موازية» لم يؤدّ بها اصطدامها السريع بـ»البند الخلافي الوحيد المتبقي على جدول أعمالها»، أي ما سمي «الاستراتيجية الدفاعية»، أي مشكلة سلاح «حزب الله»، الى انفراط عقدها، بل ان عقدها اذا كان يتفرّق في موسم كان يعود في موسم آخر، وبعد تبوؤ الرئيس ميشال سليمان لسدّة الرئاسة انتقلت هذه المؤسسة الاعتبارية الموازية الى عهدته.
مع ذلك، انحصرت مقاربة تجربة الطاولة من زاوية عملية بحت على تقدير دورها في ضبط الأزمة اللبنانية بين المشاركين في «الحوار» ضمن حدود تمنع، قدر الامكان، انفجارها غير المسيطر عليه في الشارع.
ويتقاطع ذلك مع كون ما حصل في الدوحة من صلح بعد السابع من أيار كان في الواقع انعقاداً لطاولة الحوار خارج لبنان، برعاية عربية، لوقف تدهور الوضع من غزوة مسلحة الى حرب اهلية لبنانية جديدة.
اليوم، تشبه التركيبة المشاركة في الحوار الى حد كبير تركيبة الحكومة، لكن لا هذه ولا تلك تفتحان الباب نحو التقدّم المرجو في الموضوع الرئاسي، بل يكاد هذا الموضوع ان يتحول الى مشجب لتبرير تأجيل ما لا يمكن من حيث تعريفه تأجيله، كما في حال مسألة النفايات، والأهم أنّ الموضوع الرئاسي لم يكرّس كموضوع مركزي لطاولة الحوار الآن، وهو ولو كرّس، من الصعب الاقتناع بأنّ ما لم ينجح في سلوك مساره الدستوري، يمكن توليده بالأنبوب الموازي. من يشدّد على أولوية انتخاب الرئيس يتفاضل طبعاً بنقطة على أخصامه وهي أن هؤلاء ارتكبوا معصية تعطيل الدستور والانقلاب عليه من خلال شل عمل المجلس وفرض الشغور الرئاسي والتمادي في ذلك، لكن من يشدّد على هذه الاولوية ليس عنده الآن من أدوات عملية تتيح وضع حد لهذا الشغور.
من ناحية مقابلة، التوازي بين انعقاد الطاولة وبين الحراك الاحتجاجي اليوم يفترض ان ينظر اليه ليس فقط كضغط معنوي على الحوار، بل كحوار اجتماعي صاخب وموازٍ لطاولة الحوار الموازية للمؤسسات الدستورية التي يفترض بإحداها، المجلس النيابي، ان تكون مطرح الحوار الأساسي في البلد، الحوار التمثيلي والتشريعي. فضل الحراك المدني هنا أنه، وبدلاً من تصوير طاولة الحوار كاطار عام لتحقيق اجماع وطني ممتنع عملياً داخلها وغير ممكن نظرياً الا من خلالها، فانها تصوره كمجلس ادارة لنظام سياسي يطرح نفسه كنظام «غير موجود».
مشكلة الحراك المدني الشعبي في مكان آخر. في عدم ادراكه بما فيه الكفاية بأنه يملك منجماً ثورياً يفترض به أن يطمئن اليه فلا يغالي في الشعار، أو ينشطر داخله في مزايدة شعاراتية، فطالما ان انسداد قنوات هذا النظام السياسي وصل الى هذه الدرجة الخانقة، فإنّ كل اصلاح جزئي يطرح عليه هو بمثابة تعجيز، لا يمكن تجاوزه، بل يراهن على تأجيله. فليطمئن الناس من هذه الناحية وليأخذوا نفساً فدرب الكفاح مرير: الحلول مستعصية تماماً على مستوى الأقطاب.