هناك حد زمني أقصى يمكن أن تحتمله أي دولة من دون رئيس لهذه الدولة. مهما تراجعت المتابعة الخارجية للأوضاع اللبنانية، لا يمكن أن تغيب هذه المسلّمة لا عن الأميركيين ولا عن الروس ولا عن الأوروبيين أو الأتراك أو العرب. هل اقتربنا من هذا الحد الأقصى، بحيث ينعكس الفراغ في رأس السدّة تفريغاً وتعطيلاً شاملين؟ هذه مسألة أخرى. الواضح فيها أن الوقت يضيق، ينحسر، و«الفراغ الرئاسي» الذي أمامنا لن يكون كـ«الفراغ الرئاسي» الذي مررنا فيه الى الآن.
حتى الساعة، الفراغ مضبوط بجملة أمور، منها وجود الحكومة بشكل أو بآخر، وفترة التمديد الثانية للمجلس، ولو كان الفراغ يكف يده عن التشريع، ونوع من التعويل الإجمالي على مسارات تسووية، لا مناص منها في نهاية المطاف في طول الإقليم وعرضه. من الآن فصاعداً، كل هذا يحتاج للإستلحاق سريعاً. الإشارات بإتجاه الفوضى داخلياً لا يمكن الاطمئنان اليها على الدوام على أنها تهويل. فترة التمديد الثانية توشك على النفاد. الإقليم يترنّح، وسفك الدماء في حلب يتخطى كل معقول.
من هنا كانت الضرورة لمحاولة إعادة بث حياة للملف الرئاسي. من هنا أهمية مواكبة الحركة الداخلية بالحركة باتجاه العواصم.
صحيح أن هناك «محدودية اعتبار وفعل» تشوب تعاطي مختلف هذه العواصم مع الأزمة اللبنانية، في مقابل «التركيز» على الملفات الملتهبة، لكن علّة ذلك كانت حتى الآن أن الوضع اللبناني لديه كفايته من «مضادات الإلتهاب»، وأنّه صيغة «من قريبه» لهذا الوضع، كجمع القوى المتواجهة في حكومة واحدة، يمكنه أن يفي بالغرض، وأن ادارة ملف اللاجئين مقبولة بالحد الأدنى، و«السلطة النقدية» للمصرف المركزي تؤمّن «الإستقرار» مالياً، والجيش اللبناني والأجهزة الأمنية في تفعيل مطرد لدور الشرعية في تعقب وتفكيك الشبكات الإرهابية، وبالتالي الوضع اللبناني لا يشبه الانفجار المجتمعي الحربي، سورياً وعراقياً ويمنياً وليبياً، وعليه أن «ينتظر» رئاسياً ودستورياً. هذا كان، حتى الساعة، «العمق الدولي» المستأنس بالفراغ عندنا، والذي يستأنس الفراغ به.
لكن العد التنازلي لفترة الولاية الثانية للمجلس النيابي من دون أي تقدم لا على جبهة انتخاب رئيس ولا على جبهة قانون الانتخاب، تفرض أعباء اضافية، تجعل هذا الاستئناس برصيد أقل بكثير من الفترة السابقة. يضاف الى ذلك ترنّح كل مسارات تسوية النزاعات الشرق أوسطية المختلفة، وصولاً الى انهيار التواصل الأميركي – الروسي في الموضوع السوري في الأيام الأخيرة.
أهمية التحرّك بإتجاه العواصم، بدءاً من زيارة الرئيس سعد الحريري لموسكو تندرج في هذا الإطار. ثمة حد زمني أقصى من دون رئيس دولة يمكن أن تحتمله أي دولة. تسويغ الفراغ بحجة انتظار انفراج أو حسم أي من المسارات الملتهبة اقليمياً لم يعد ممكناً. والأهم، تسويغ الفراغ الرئاسي بحجة أن ثمة محورين اقليميين يضع أحدهما «فيتو» أمام تعبئة الفراغ بالشكل الذي يريده الآخر لم تعد قابلة للتصديق بأي شكل كان. هي أساساً صارت صعبة التصديق من اليوم الذي صارت فيه 14 آذار منقسمة بين مرشحي 8 آذار دون أن يجعل ذلك قيادة 8 آذار تتقدّم بإتجاه الحل، وصارت مستحيلة التصديق تماماً مع المناخ الجديد الذي أوجدته حركة الرئيس الحريري بإتجاه المرجعيات السياسية المختلفة، بحيث لم يعد صعباً أبداً نقل الصورة اللبنانية بوضوح كلي للخارج: هناك فريق لا يحضر الى جلسات الانتخاب، لا حين يعرض عليه الاختيار بين حليفين وثيقين له ولا حين يعرض عليه اختيار حليف واحد! وهناك في المقابل، هامش يمكن للدول ذات التأثير والنفوذ أن تقوم به، أو أن تحاول. فاذا كانت الدول هذه «تركز» على أوضاع اقليمية أخرى، غير تلك اللبنانية، الا أنّ الحفاظ على «ستاتيكو حد أدنى» في لبنان صار مرتبطاً بامكان التقدّم بجدية نحو انتخاب رئيس، ونحو قانون ميسّر للانتخابات النيابية المقبلة.
والموعد الذي ضربه رئيس المجلس للجلسة المقبلة يختلف عما سبقه. ليس فقط من حيث المدة، وليس فقط عند قياس الحظوظ، وبورصة ارتفاعها أو هبوطها. يختلف هذا الموعد لأنه ما لم يتأمن النصاب عند عتبته، ثمة احباط إضافي سيدفعه الوضع اللبناني «من كيسه» بشكل أثقل وطأة عمّا سبق.
لا يزال الفوز بـ«امكانية رئيس» في كل هذه التعقيدات صعباً، والحركة الخارجية على الأطراف المعطّلة أكثر من ضرورية، لكنّ تقدير حجمها ومداها ونتيجتها هو متعذّر الآن. تحاشي الفراغ الشامل هو معطى يضغط باتجاه الظفر برئيس، بشكل أو بآخر. لكن هذا الفراغ الشامل ليس مجرّد شماعة يجري التهويل بها للفوز برئيس، إنّه على أقل تقدير ما ستتجه له الأمور أكثر فأكثر ما لم يتح المجال لـ«حركة الإستلحاق» الحالية أن تصل الى مبتغاها.