في عزّ أزمته الشخصية، وأزمة الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون، مع «حزب الله» يلجأ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل إلى بشير الجميّل. بعدما أنكره أكثر من مرة، وبعدما تحالف مع الذين قتلوه وخوّنوه، ولا يزالون يقتلونه ويرجمونه، يريد باسيل من بشير أن يسامحه وأن يغفر له وأن يساعده على تخطّي أزمته، من دون أن يُجري أي مراجعة لتاريخ علاقته بالقضية التي كان يمثّلها بشير والتي استشهد من أجلها، ومن دون أن يصحّح المسار السياسي الذي سلكه والذي يتعارض كلياً مع ما مثّله بشير.
في المؤتمر الوطني السنوي لـ»التيار الوطني الحر» يوم الأحد 17 آذار الحالي، ناشد رئيسه النائب باسيل كلّ القوى المسيحية «باسم كل التضحيات وآلاف الشهداء، وعلى رأسهم بشير الـ10452 كلم²، وضع خطٍّ أحمر تحت الوجود والشراكة المتناصفة ولبنان الكبير»، واصفاً هذه المعركة بمعركة وجود الناس الذين يمثّلونهم، «لأنّ خسارة أو استضعاف أي مجموعة منّا هي خسارة لوجودنا. كلّنا بحاجة لبعضنا لنبقى، وليبقى لبنان الرسالة الذي نريده مع شركائنا». وشدّد على أن هذه الدعوة ليست «دعوة لحلف طائفي ضدّ أحد، إنما ندعو هنا للشراكة بين الكل انطلاقاً من حماية الوجود للكل».
وكرّر طلبه من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بما يمثّله من مجد لبنان، أن يجمع القيادات السياسية المسيحية لأنّه لا يوجد سبب لعدم اللقاء. وتوجه الى هذه القيادات قائلاً: «إن الوقت ليس للمزايدات، ولا للعدائية التي يظهرها البعض لأنّ أحداً لا يستطيع إلغاء أحد… ومن يعتقد من السبعينات إلى الثمانينات وصولاً إلى التسعينات، أنه ربح بحذف غيره داخل طائفته، ليتذكّر ويتعلّم إن النتيجة كانت خسارة للمسيحيين وإضعافهم من دون ربح له».
بسبب تحالفه مع «حزب الله»
لماذا تذكّر باسيل شهداء المقاومة اللبنانية وبشير الـ10452 كلم مربعاً؟ ولماذا يناشد القوى المسيحية للتلاقي في ما يعتبر أنّه أزمة مصيرية يواجهها المسيحيون؟ ولماذا لا يتحدّث عن تجربته وتجربة مؤسّس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون وعن انعكاساتهما السلبية على هذا الواقع الذي يعاني منه اللبنانيون بشكل عام، وليس المسيحيين وحدهم؟ ألا يحمّل نفسه أي مسؤولية في التداعيات التي حصلت بسبب سياسته ونهجه وتحالفه مع «حزب الله» منذ العام 2006؟ ولماذا هذه المناشدة الآن بعدما تعكّرت علاقته مع «الحزب» بسبب الخلاف حول ترشيحه إلى رئاسة الجمهورية؟ ولو عاد «الحزب» وتبنّى ترشيحه هل تبقى هذه المناشدة؟ أم ينكرها؟
مشكلة جبران باسيل وميشال عون أنّهما يتّخذان هذه المواقف اليوم ولكن من دون أن يقطعا نهائياً مع «الحزب»، ومن دون أن يتنكّرا لتحالف 6 شباط، وكأنّهما ينتظران أن يحييَه «الحزب» بعدما يتيقّن أنّه لا يزال أيضاً بحاجة إلى هذا التفاهم، وبالتالي يتخذ القرار بالتخلّي عن ترشيح رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية ويعود إلى ترشيح باسيل.
يلجأ عون وباسيل في خطابات الإنكار إلى رفض ربط لبنان بحرب غزّة. صحيح أنّهما ينتقدان قرار «الحزب» بفتح هذه الحرب في الجنوب ويعلنان معارضتهما لها، ولكنّهما لا يقتربان من مسألتي سلاح الحزب والسيادة اللبنانية. والموقف من هاتين المسألتين هو الأساس قبل مناشدة القوى المسيحية الى اللقاء من أجل مواجهة الإقصاء الذي يتعرّض له المسيحيون.
لماذا غطّى التيار الحزب؟
هذا الإقصاء لم يكن ليحصل أو ليصل إلى هذا المستوى لولا تحالف باسيل وعون مع «حزب الله». هذا التحالف الذي حكم علاقتهما قبل أن يكون عون رئيساً للجمهورية وبعدما صار رئيساً. ألم يكن «التيار» مع «الحزب» في الإنقلاب على حكومة الرئيس فؤاد السنويرة في العام 2006 بعد حرب تموز؟ ألم يكن معه في هذه الحرب وفي الحملة التخوينية التي طالت معارضيه من قوى 14 آذار ومن بينهم القوى المسيحية التي يناشدها باسيل اليوم للإلتقاء والمواجهة؟ ولكن مواجهة مع من؟ هل التهميش يطال اليوم المسيحيين وحدهم أم كل الحالة السيادية التي تعارض «حزب الله»؟ وهل الأزمة أزمة مسيحية أم أزمة وطنية؟
ألم يكن باسيل وعون مع «الحزب» في حصار السراي وفي قطع الطرقات وفي الحملة العسكرية التأديبية التي شنّها في بيروت والجبل لحماية سلاحه في 7 ايار 2008 أملاً بانتخاب عون رئيساً خلفاً للرئيس إميل لحود؟ أين كانت حقوق المسيحيين وقتها؟ وأين كانت حدود السيادة؟ ولماذا راهن عون على قوة «الحزب» لكي تنقله من الرابية إلى بعبدا؟
صحيح أنّ الفرصة فاتت عون بعد تفاهم الدوحة ولكنّه لم يفقد رهانه على «الحزب». يحكي باسيل وعون اليوم عن انتقاص حقوق المسيحيين ويتّهمان «الحزب» بأنّه ينقلب على الشراكة من خلال دعمه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي «الفاقدة للشرعية والمستقيلة والتي تصرف الأعمال وتصادر صلاحيات رئيس الجمهورية»، ولكنهما يتناسيان أنّ هذه الحكومة كان شكلها الرئيس عون مع الرئيس ميقاتي ومع «حزب الله». ويتناسيان كم مرّة عطّل «الحزب» الحكم والحكومات من أجل حقيبة وزارية يريدها باسيل. ويتناسيان كيف عطلا مع «الحزب» الإنتخابات الرئاسية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان لمدة عامين ونصف حتى يتأمن وصول العماد عون إلى قصر بعبدا.
من تفاهم معراب إلى عزل «القوات»
ويتناسى عون وباسيل أن تفاهم معراب مع «القوات اللبنانية» هو الذي فتح الطريق أمام عون ليصل إلى بعبدا. كان من المنتظر أن يصبح عون رئيساً فعلياً للجمهورية لا ممثلاً لـ»حزب الله» في قصر بعبدا. من لم يجرؤ على فكّ تفاهمه مع «الحزب» والإنتقال من رئاسة «التيار» إلى أن يكون رئيساً لكل الجمهورية كيف يمكنه اليوم أن ينتقد الحزب؟ ما يفعله باسيل وعون اليوم كان يجب أن يفعلا أكثر منه خلال الأعوام الستة التي قضاها عون في بعبدا.
من لم يستطع أن يتحرّر من سطوة «الحزب» وهو في موقع القوة في الرئاسة، هل يمكنه اليوم وهو خارج القصر أن يؤثّر على قرار الحزب بمصادرة قرار الدولة؟ في الأساس لم يصل خطاب عون وباسيل إلى هذا المستوى. لا يزالان لا يجرؤان على انتقاد سلاح «الحزب» واستراتيجيته في الداخل لأن تدخل الحزب في الخارج قائم على القوة التي راكمها في الداخل، وكان عون وباسيل يغطّيانها.
على العكس، وبدل أن يعتمد عون على التفاهم مع «القوات» لاسترداد القرار السيادي، أول ما فعله مع باسيل، وبغطاء من «الحزب»، كان إقصاء «القوات» من المعادلة وإسقاط تفاهم معراب من أجل تفاهم مار مخايل على أمل وعد لم يأتِ من الحزب بأن يكون باسيل رئيس الجمهورية المقبل. باسيل يتحدّث اليوم عن الإلغاء بين المسيحيين من السبعينات والثمانينات والتسعينات وينسى مع عون أنّه كان بطل عمليات حروب الإلغاء هذه التي حاول فيها أن يحطِّم القضية التي مثّلتها «القوات» اللبنانية وبشير الجميل.
كان عون جندياً في «ميليشيا» بشير الجميل قبل أن يطلب أن يكون جندياً في جيش الأسد وقبل أن يكون جندياً في ولاية الفقيه. انقلب على بشير الجميل وعلى «القوات» وعاد بعد عشرين عاماً من حرب التحرير إلى دمشق ليبني علاقة متجدّدة مع رئيس النظام السوري بشّار الأسد، وانغمس في خدمة مشروع «حزب الله» الذي يتناقض كليا مع مشروع بشير الجميل ولبنان الكبير والوجود المسيحي في لبنان كبشر، قبل أن يكون وجوداً ممثَّلا بحقوق سياسية وبحضور داخل الدولة.
أين كان مجد لبنان؟
باسيل يناشد اليوم بكركي والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي بما يمثّله من «مجد لبنان الذي أعطي له» لكي يجمع القوى المسيحية. ولكن هل هذه الدعوة هي فعلاً لإنقاذ المسيحيين من التهميش؟ أم لإنقاذ عون وباسيل و»التيار» من الأزمات السياسية التي يتخبطّون بها؟ اليوم يقرّ باسيل بأنّ مجد لبنان أعطي للبطريرك. ولكن هل يستمع إلى الخطابات التي تصدر عن قيادات في «حزب الله» وتنكر على بكركي هذا الحق وتعتبر أن تاريخ لبنان بدأ مع الحزب «الذي صنع مجد لبنان الذي لم يكن موجوداً من قبل»، وأنّ بكركي وغيرها من القوى التي كانت وراء قيام لبنان الكبير هي قوى عميلة للإستعمار والغرب؟
هل يتذكّر باسيل كيف اعتدى أنصاره على البطريرك مار نصرالله بطرس صفير فجر 5 تشرين الثاني 1989 قبل انتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية؟ وكيف أهين «مجد لبنان» واضطرّ إلى الإنتقال إلى الديمان؟ وكيف اعتبر عون أن البطريرك ضلّ الطريق وأنّ الشعب قال كلمته؟ وهل يتناسى باسيل وعون الحملات على البطريرك الراعي الذي أيّد ثورة 17 تشرين وخالفهما في تأييد سلاح «حزب الله» وفي إنكارهما حق الدولة بحماية حدودها وبامتلاك قرار الحرب والسلم واعتبرا أن الجيش اللبناني عاجز عن هذه المهمة وأنّ هذه المهمة تحتاج إلى «حزب الله»؟
ثمة فعل ندامة وتوبة ومراجعة نقدية ذاتية على باسيل أن يقوم بها. وإذا كان عون لم يلبِّ طلب الراعي بتحرير قرار الشرعبة وهو رئيس فيمكنه اليوم، ولو بعد فوات الأوان، أن يعلن موقفاً واضحاً من هذا السلاح ومن السيادة اللبنانية خصوصاً أنّه ضيّع الجمهورية ورئاسة الجمهورية وجاء اليوم يبكي حكماً لم يعرف كيف يصونه ويطالب باستعادة حقوق ضيّعها بتحالفاته من أجل مصالح شخصية، وهو الذي طالما أعلن أنه يريد استعادة الجمهورية أولاً قبل أن يكون رئيساً للجمهورية؟
قبل أن تلبي بكركي مثل هذه الدعوة للتلاقي، ثمة خطوات على باسيل وعون الإقدام عليها وقبل الإستعانة ببشير الجميل يقتضي الأمر الإعتذار منه والإعتراف بالأخطاء التي ارتكباها حتى تكون هناك مبرّرات لمثل هذا التلاقي، وحتى تكون له بداية جديدة لا تشبه النهايات التي آل إليها عهد عون الذي يناقض عهد بشير في كل شيء