عند خط دفاعه الثاني أمام هجمة الاتهامات بتورطه في الفساد التي انطلقت مع التحرك الحالي، رفع «حزب الله» صورة أمينه العام السيد حسن نصرالله كرمز للنزاهة الشخصية وهو ما يتفق عليه لبنانيون كثيرون. ذلك أن تواضع أحوال أسرة الأمين العام وتقشفه الشخصي يكادان لا يختلف عليهما شخصان.
في المقابل، رفعت قوى «14 آذار» صور شهدائها الذين قضوا اغتيالاً في خضم معركة استقلالية قاسية لم تضع أوزارها بعد. ويتسم موقف عموم اللبنانيين باحترام شخصيات الشهداء الذين يتقدمهم رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، الأب الروحي والمؤسس العملي لـ «14 آذار».
يريد الحزب تقديم نصرالله كرمز للنقاء السياسي انطلاقاً من عدم تورطه شخصياً في ملفات الفساد على غرار نظرائه من السياسيين اللبنانيين وأن يبني على الميزة الفردية لأمينه العام سردية عريضة تحول دون زج الحزب بملفات الفساد، مع استعداد ضمني للتراجع عن أشخاص أدنى مستوى من نصرالله في سلم القيادة، ممن لاكت سير فسادهم الألسن وصفحات الجرائد.
الأمر ذاته نجده عند «14 آذار» ونواتها تيار «المستقبل» الذي يرى أن اتهامات الفساد تشوه التضحيات التي قدمتها قياداته وتسيء إلى تاريخ من الصراع ضد الهيمنة السورية ومحاولات إعادة استتباع لبنان بعد 2005.
موقفا الحزب و «14 آذار» صحيحان نظرياً. بيد أن ذلك يعيد تأسيس حصانة تختبئ خلفها العقلية التي أباحت المال العام اللبناني على مدى عقود. هذه الحصانة القائمة على الاستثناء وعلى النزاهة الفردية من جهة وعلى التضحية بالحياة من جهة ثانية، تقود إلى تبرير لاحق لممارسة أوسع أنواع المصادرة للحيز العام، المادي والسياسي والثقافي.
في آخر الأمر، لا تتعلق الحياة العامة في أي بلد كان، بالصفات الشخصية لفرد بعينه بغض النظر عن مدى تأثيره في مسارات الأحداث. ثمة لائحة طويلة من الحكام الذين لا يداني الغبار سيرهم الشخصية وقادوا بلادهم إلى الكوارث. بل إن الموضوع يتعلق بالشراكة في نظام سياسي يقوم جزء مهم منه على الفساد الدائم والذي بلغ في الحالة اللبنانية انقلاب الحكم في لبنان «كليبتوقراطية» (أو «حكم اللصوص») لا مجال فيها لأي إنتاج أو عمل اقتصادي أن يتعاطى بأي شكل مع المال والثروة، من دون أن يحاول السياسيون اقتطاع حصة لهم منه، من تمويل تعليم أبناء اللاجئين السوريين في المدارس اللبنانية إلى توزيع مشاريع البنية التحتية وصولاً في فرض الشراكة على مؤسسات القطاع الخاص لمنح أعداد من أسهمها إلى شخصيات سياسية.
المنطق المافيوي في السياسة اللبنانية، يضرب عميقاً في جذور النظام السياسي. فالتحالفات التي تحكم البلد منذ قيامه عام 1920، هي في واقعها تحالفات قبلية يحتل فيها مفهوما الحماية والجباية على طريقة الدولة السلطانية ما قبل الحديثة، موقعاً مهماً. عليه، يكون من اللامعقول، وفق «العقل» السياسي اللبناني، قيام مشاريع اقتصادية أو حتى ثقافية من دون أن تحظى برعاية الزعيم المتنفذ وما يستوجب ذلك من جزية يدفعها أصحاب المشروع بدل حمايته لهم.
واحدة من الصعوبات الكبرى أمام الحراك الذي أطلقته أزمة النفايات هي مسألة تغيير موقف اللبنانيين من السياسة، من اعتبارها استجداء الحماية من قائد الجماعة إلى فكرة الخدمة العامة التي يقدمها سياسيون منتخبون مقابل الضرائب. هنا، لا مكان لأيقونات ولا لقيادات تاريخية. فهذه تسكن أماكنها الحقيقية: كتب التاريخ. أما الحياة اليومية فيديرها بشر عاديون قابلون للنقد والمحاسبة.