بين «السيّد» و»الجنرال» عهد أمن وأمان. اطمئنان متبادل، ظهران محميان. لا مكان لحَمَلة الخناجر، على كثرتهم في لبنان. ما بين الرجلين، علاقة مميزة، بالبرهان والالتزام والموقف. علاقة، من طبيعة إنسانية تعلو على السياسة، ومن مستوى قيمي نادر. علاقة، لم ينص عليها «التفاهم» الصامد، برغم المحن، وما يحيط به من تشكيك ومحاولات تصيّد ورمايات غير عشوائية، من الخصوم دائماً، ومن «الحلفاء» عندما يبتعدون عن إبرة البوصلة المتجهة جنوباً، بعكس البوصلات اللبنانية الأخرى، التائهة بين قطبي المنازلة المعادة والمكررة والممجوجة، «8 و14 آذار».
بين «السيد» و «الجنرال»، ضمانة الالتزام بالصدق ولو كان ثمنها باهظاً، وضمانة الجرأة على اتخاذ الموقف الصح في المنعطفات الصعبة والمصيرية. ما بينهما، تعمّد في العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان، في تموز 2006.
الشرق الأوسط الجديد كان على الأبواب. كوندوليسا رايس عرَّابة الحرب. وخريطة طريق وُضعت لرسم المنطقة، وفقاً لترتيبات تمهد لحل المشكلة الفلسطينية على حساب الفلسطينيين، ولإعادة تشكيل بيئة إستراتيجية تلتقي مع تداعيات الحرب على العراق، تدميراً وتفكيكاً وتقسيماً، وتستعد لمباشرة العمل في سوريا، تطويقاً وحصاراً وإخضاعاً.
الحرب الإسرائيلية، بالعنوان اللبناني، هدفت إلى سحق المقاومة وإخراجها من الخندق الأمامي على الحدود، ضماناً لأمن الشمال في «إسرائيل»، وتمهيداً لإسقاطها من المعادلة الداخلية، ونبذها من بيئة منهكة ومدمرة ومهجرة ولا طاقة لها على المزيد من التضحيات.
الحرب الإسرائيلية، بما حشدت لها من قوات جوية وبرية وبحرية، لم تكن بحجم معركة لتحسين مواقع على طاولة المفاوضات. كانت حرب كسر المقاومة، وتدمير جسور، كي لا تكون ممراً لـ «حزب الله» في أي مفاوضات. كسر المقاومة في الميدان، وقطع الطرق عليها في التفاوض، وتنفيذ إملاءات إسرائيل، و «نصائح» المجتمع الدولي، ورغبات فريق سياسي من اللبنانيين. حجم المعارك وكثافة النيران وعدد الطلعات الجوية والغارات التدميرية، أقنعت أعداداً من اللبنانيين بأن «ساعة المقاومة قد دنت»، وأن آمالها، إما تسليم سلاحها مهزومة، وإما تقنينه عبر وضعه في عهدة «الدولة»، ذات العجز الفائق، وصاحبة فلسفة «قوة لبنان في ضعفه»، وأنه خير لك أن تعيش نائماً من أن تموت واقفاً.
الخوف على المقاومة تزايد، الشك بقدرة الصمود تعمق، الأمل بالانتصار على العدوان تضاءل، والإيمان اهتز. بدَّدت ذلك أحياناً جرعات حيوية، بإطلالات السيّد على الشاشة. أعاد للمؤمنين ثقتهم، يوم قال: «انظروا إليها إنها تحترق». مقابل هذا الخوف المشروع على المقاومة والوطن وفلسطين، ترعرع «أمل سرابي» لدى فريق من اللبنانيين، بلغت خصومته للمقاومة حد الاستعداء، وحد تشكيل مستقبل تكون فيه البنادق تحت خيمة الدولة، بإمرة «الشرعية»، على أن يصبح لبنان، منصة «الشرق الأوسط الجديد»، تماماً كما كان حلم إسرائيل بعد عدوان 1982، بأن يُتوَّج بشير الجميل رئيساً للبنان، و «قائداً» لشرق أوسط ملائم لإسرائيل، منصته الأساسية قصر بعبدا.
ما بين «السيّد» و «الجنرال» جديد مبتكر. العلاقة بينهما غير خاضعة للحسابات الصغيرة والأرباح السهلة. ما بينهما كان بحجم مصير. في لحظة الجنون الكبرى، داخلياً وإقليمياً ودولياً، في لحظة الهجوم العسكري والديبلوماسي العربي والدولي، وفي لحظة التخلي العربي والإدانة السعودية لمغامرة «حزب الله»، وفي ذروة الانقسام اللبناني والاتهامات المتبادلة من عيار الخيانة، وقف الجنرال في المنطقة الخطرة، والتزم الموقف الأصعب، كأنه يقول: «نموت معاً واقفين». أو كأنه كان يعرف أن مثل هذه المقاومة، لا تُهزم. فهي من طينة جديدة، لم يعرفها أحد من قبل. وقائدها، هبة من التاريخ، ما جاء يمثلها من قبل. فالمقاومة، في نظر «الجنرال»، استثنائية. وقائدها استثنائي. وانتصارها سيكون استثنائياً.
في الأيام الأولى الصعبة، وبيروت تقصف، والضاحية تدمر والجنوب يفرغ من أهله، والنازحون بعشرات الآلاف، تحركت طوابير الهزيمة. سفراء ودول ورجال اتصلوا بـ «الجنرال». قدموا له النصح. مهدوا له طريق العودة، حثوه على «الحكمة»، هوَّلوا عليه… قالوا له: المقاومة تنحر وأنت تنتحر… لم يغيّر «الجنرال» موقفه. لم ينتحر، بل انتصر. وحصته من الانتصار بمقدار وقوفه إلى جانب المقاومة، يوم كانت السكين على رقبتها.
سمع «الجنرال» قول «السيّد»: «إلى يوم الدين». هذه رفقة لا تعلوها رفقة أبداً، هذه رحلة بمرتبة معراج روحي، أنَّى للسياسة أن تبلغ أخمصها؟ أمر لم يعتد عليه أحد في السياسة. السياسة أرقام وحسابات وأرباح وخسائر. ما بين الرجلين، من طبيعة أخرى. لهذا عبّر «الجنرال» عن علاقته بـ «السيّد» بتأثر واضح: «إنه قيادي استثنائي ورجل قرار في الوقت الحاسم، وهو سيد نفسه وسيد قراره، ودائماً، عندما أتحدث عنه أكون مقصراً. كنت دائماً والسيد نصر الله على توافق بالأفكار. لديّ ثقة به، وهو لديه ثقة بي، ونحن مرتبطان بكلمة شرف، ولم نوقع على التفاهم».
ضمانة «التفاهم»، رجلان لم يوقعا على نصوصه. ضمانة التفاهم، تلك العلاقة الراسخة والمؤسسة على عهد الثقة والأمن والأمان والالتزام… حتى ما بعد النفس الأخير.
مر «التفاهم» بأعاصير. تصيَّده الخصوم منذ حروفه الأولى، وبُعيْد ولادته العلنية في كنيسة مار مخايل منذ عقد تقريباً، وشكك به شركاء، وتطاول عليه «حلفاء»، وبرغم ذلك، ظل حيَّاً يرزق بعناية وكفالة الرجلين.
هل الرئاسة مكافأة لـ «الجنرال» بسبب موقفه الداعم للمقاومة؟ في المنطق السياسي، هذا مشروع. في المنطق الأخلاقي، هذا ممنوع. المقاومة، في خنادقها، ترى من حقها الدفاع عن لبنان وعن نفسها. و «الجنرال» في خنادق السياسة اللبنانية، في التفاهم الطائفي بعنوان المشاركة، له الحق في أن يكون شريكاً، برتبة مساوية للآخرين، لما يملكه من قوة تمثيل.
إنما من حق كل من ليس طائفياً، أن ينقد وينقض هذا النظام الطائفي. ومن واجبه الأخلاقي والقيمي التشبث بنظام المواطنة البديل. من حق كل هؤلاء أن يقولوا للـ «السيّد»: ليت المقاومة تتسع عن جد، وليس بالكلام، لقوى غير طائفية، قادرة على فك العزلة وضرب الحصار المذهبي عليها. ومن حق العلمانيين، أن يسألوا «الجنرال»، وهو في هذا المقام، عن الالتزام الأخلاقي بالمقاومة، لماذا تخليت عمن كان معك من الطوائف الأخرى، في شعار «التغيير والإصلاح». من حق هؤلاء أن يسمعهم «الجنرال»: «ليس هناك طائفية بأخلاق وطائفية بلا أخلاق. الطائفية، بلا أخلاق بالمرة».
وضوح الرؤيا ونصاعة الهدف والإرادة الصلبة أمنت الانتصار على العدو. التلبد المذهبي والطائفي، يقف حائلا بين «الجنرال» وتحقيق «الإصلاح والتغيير»، ويسد عليه الطريق إلى رأس السلطة، فرقاء طائفيون يحتجون عليه، بحقوق طوائفهم ومذاهبهم.