هذه المرّة معنويات نواب أحزاب المعارضة التركية هي التي كانت في الحضيض بعدما أهدروا فرصة انتخابات حزيران المنصرم التي قدّمها إليهم الناخب التركي على طبَق من فضّة لتشكيل ائتلاف حكومي ثلاثي في ما بينهم وقطعِ الطريق على حزب «العدالة والتنمية» في تحقيق حلم البقاء في السلطة لحقبة جديدة.
أجواء جلسة أداء اليمين الدستورية للمجلس النيابي التركي الجديد اختلفت عن اجواء ما قبل 5 أشهر. نواب حزب «العدالة والتنمية» الذين عادوا الى الهيمنة على غالبية مقاعد البرلمان بحصّة 317 مقعداً من اصل 550، تحرّكوا في قاعة المجلس والكواليس بقوة وثقة بأنّ السلطة التشريعية تحت إشرافهم بعدما فقدوها لمصلحة أحزاب المعارضة لأشهر معدودة، والتي اكتفَت بالحديث عن توجيه ضربة قوية وهزيمة لحزب رجب طيب اردوغان في حزيران من دون أن تُجيّر حظّها هذا نحو تفاهم حكومي وبرلماني يعكس رغبة الناخب والصناديق في منحِها الفرصة التي تبحث عنها في الحكم والإدارة.
رئيس الوزراء التركي احمد داود اوغلو المكلّف تأليف الحكومة الجديدة سينجِز حتماً المهمة وينطلق لتنفيذ وعود الإصلاح والتغيير التي قدّمها كتعهّد إلى الناخب التركي الذي عاد ومنحَه الثقة التي يريدها أملاً في ألّا يُخطئ أو يُفرّط بها مجدداً، لذلك تراه يكرّر أنّ فحوى البرامج الانتخابية المعلنة إبّان الحملات بما تتضمّنه من مواد وتعهدات سياسية ودستورية واجتماعية سينفّذ القسم الأكبر منها خلال 100 يوم، خصوصاً ما لا يحتاج منها الى قوانين وتعديلات دستورية تتطلّب التعاون مع المعارضة والحصول على دعمها في البرلمان.
عمليّاً داود اوغلو كان قد أطلق وعوداً تتعلّق بالإصلاح والتغيير جدولها على شكل أولويات للتنفيذ ضمن 10 بنود خلال 3 مراحل زمنية، وعود ستنفّذ خلال 3 أشهر، وأخرى ستستغرق 6 أشهر، ووعود ستستغرق سنة، وقد تضمّن البرنامج الذي يعدّ أولويات عشرة وهي:
– الاستجابة لمطالب العلويين في تركيا، مثل الاعتراف بهويتهم الدينية وحسم مسألة مشروعية «بيوت الجمع» وقبولها على أنّها دور عبادة رسمياً وقانونياً.
– إصلاحات قضائية يتقدمها إغلاق المحكمة العسكرية العليا، وتحكيم الأحداث العسكرية الفردية في هيئة القضاء الأعلى، وتحكيم الامور الإدارية العسكرية والبت فيها من خلال المحكمة الإدارية العليا.
– تعديلات مهمة في بنيوية سوق العمل والتوظيف، وإنشاء صندوق التعويضات الاجتماعية بصيغة جديدة حديثة.
– إعادة النظر في قانون ضريبة الدخل، والقانون الخاص بأصول الضرائب، والحد من الاستثناءات المتعلقة بدفع الضرائب، فيما تمّ الاتفاق على جعل الحد الأدنى للأجور 1300 ليرة تركية.
– تطوير ساحة الاستثمار، والمضيّ قدُماً في ما يخصّ التقليل من البيروقراطية، وتأسيس ما يسمّى «المحطة الواحدة» في ما يخصّ المستثمر.
– إعادة تقويم وضعِ موظفي الحكومة، من خلال مناقشة الحقوق المتعلّقة بهم، وسيتم تقويم وضع العامل بالتزامن مع أدائه.
– إصلاحات في الإدارة العامة، بحيث ستذلّل العقبات التي تعترض الإدارة المركزية، وستتّخذ خطوات جذرية في ما يتعلق بتغيير البنية الخاصة بالبنوك.
– تعديلات على مسوّدة الدستور التي اقترِحت خلال الفترة السابقة وقُبل نحو 60 مادة منها من أحزاب المعارضة للإسراع في إقرار هذه المواد أو استكمالها بحلّ بقية مواد الخلاف لطرح دستور عصري تركي.
– إعتماد أساليب الشفافية أساساً في العملية السياسية، والتمكّن من مساءلة السياسيين في ما يتعلّق بالكسب، وفتح المجال للتبرّعات أمام السياسيين سواءٌ من حساباتهم الشخصية أو الإدارية.
بينما ينتظر أوغلو في الأشهر المقبلة وعوداً بـ:
– تحريك الدستور التركي الجديد وإقناع أحزاب المعارضة بالتنسيق لإنجاز هذا المطلب الذي تريده وتعد به كلّ الاحزاب التركية.
– الانفتاح على قوى المعارضة في النظام الرئاسي الذي يتبنّاه اردوغان والتعاون معها لصوغ تفاهم دستوري في هذا الشأن.
– ملفّ المسألة الكردية في تركيا الذي بات مرتبطاً بملفّات الأكراد في سوريا والعراق وإيران.
– برامج تغيير جذرية في عمل مؤسسات تعليمية وقضائية واجتماعية كمجلس التعليم العالي ومجلس القضاء الاعلى.
– إزالة حالة الانغلاق والتشدّد بين فئات المجتمع التركي وقواه الفاعلة عرقيّاً ودينياً وعقائدياً.
– الإسراع في إنهاء أزمة الكيان الموازي المحسوب على جماعة فتح الله غولان في تركيا الذي كلّف البلاد أشهراً طويلة من الاستقطاب والمواجهات
والانقسامات بين الحكومة وجناح كان أحد أهمّ شركائها في الإدارة والقرار حتى الامس القريب.
لكنّ الامتحان الأهم الذي ينتظر أوغلو سيكون في السياسة الخارجية التركية التي تتطلّب منه الخروج من دائرة الخطر الاقليمي المحدِقة بتركيا أمنياً وسياسياً.
أوغلو يقول للمعارضة إنّ عليها أن تقبل الهزيمة وانتصار «العدالة والتنمية» في هذه الانتخابات، خصوصاً بعدما فَقد حزب «الحركة القومية» اليميني مليونَي صوت وخسر «الشعوب الديموقراطية» الكردي مليون صوت، وفقد حزب «الشعب الجمهوري» اليساري أيّ نفوذ له يُذكر في اكثر من 40 مدينة تركية في الانتخابات البرلمانية الاخيرة بالمقارنة مع انتخابات حزيران المنصرم.
لكن داود اوغلو يقول لأنصاره ومحازبيه أيضاً إنه لن يقبل المساس بالحريات الفردية وتحويل انتصار حزب «العدالة والتنمية» فرصةً لتصفية الحسابات مع احد، بل أن تكون النتيجة دافعاً نحو الانفتاح والتواضع والاعتدال وقبول الآخر مهما كانت ميوله وتوجّهاته.
حكومة اوغلو وحزب «العدالة والتنمية» يستعدّان ربّما لإدارة تركيا في السنوات الأربع المقبلة، لكنّ الهدف الاستراتيجي الحقيقي هو وضعُ خطط البقاء في الحكم حتى 2023 لإحياء احتفالات مئوية اعلان الجمهورية، وتركيا تحاول التعريف بهويتها الجديدة… الأورو ـ آسيوية.