يصرّ دونالد ترامب على أنّ اتهامه باراك اوباما وهيلاري كلينتون بتأسيس تنظيم «داعش» ليس من قبيل الاستعارة والمجاز، ولا هو من نوبات المزاج.
يصرّ ترامب على حرفية التهمة، وعلى قصدية التأسيس. أي أن اوباما وكلينتون فعلاً هندسا هذا المسخ في المختبر وأطلقاه لتخريب العالم.
هناك آلاف من الأسباب الوجيهة لانتقاد السياسة الخارجية الأميركية في عهد اوباما، لكن اتهام ادارته بالتخطيط لتأسيس «داعش» من قبل مرشّح كدونالد ترامب لا ينتمي الى طائفة هذه الأسباب.
فبالحد الأدنى، الجماعة الزرقاوية موجودة على أرض العراق، تكفّر وتقتل الشيعة، وتحارب القوات الأميركية والبريطانية، قبل وصول اوباما الى سدّة الرئاسة. وهذه الجماعة هي نتيجة الاحتلال الأميركي بالدرجة الأولى، لكنها أيضاً نتيجة المنطق الذي اعتمده هذا الاحتلال لادارة العراق، بفرز الناس الى مجموعات اثنية أساسية ثلاث، كردية وعرب سنية وشيعية، واحلال التغلّب الفئوي «الاسلاميّ الشيعي» بدل «البعثي السنّي»، والمراهنة على ان من شأن هذا الأمر ان يفرز مرجعية شيعية عربية تنادد كلاً من المرجعيات السنية العربية من ناحية، ومرجعية ولاية الفقيه الايرانية من ناحية ثانية.
كل هذا لا يمكن اخراجه من عين الحسبان، ويظل مع ذلك غير كاف.»داعش» هي أيضاً نتيجة غلبة منطق «اما أن نُباد أو نبيد» في أرض العراق، ولسنوات طويلة كان العنف الانتحاري هذا يشفع له في الاعلام الممانع على انها «مقاومة وطنية»، فيما كانت حكومة نوري المالكي تتهم «حزب الله» بمساعدة بعض هذه الفصائل، وتحديداً تنظيم القاعدة في العراق، أي الجماعة الزرقارية، يومها كان المالكي هو «عدو الممانعين»، وكان الممانعون يحتفون بضربة حذاء وجهت لجورج بوش وحاول نوري المالكي أن يردّها عنه بيده.
لادارة باراك اوباما سيئات كثيرة، وذات أبعاد كارثية، بلا شك، خصوصاً وأنها عجّلت بانسحاب أميركي من العراق يشبه الانسحاب البريطاني من فلسطين في نهاية الانتداب ومن شبه القارة الهندية في الفترة نفسها نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. الانسحابات الاستعمارية يمكن ان تكون «أكثر امبريالية» من الغزوات الاستعمارية نفسها. يمكنها في الحد الأدنى أن تنمّي التناقضات التناحرية بين الهندوس والمسلمين في حال الهند، أو تطلق العنان لنكبة المجتمع المحليّ العربي على يد المجتمع الاستيطاني اليهودي في حال فلسطين.
في هاتين الحالتين، أعقب الانسحاب البريطاني عملية ترحيل هائلة، مزدوجة في الاتجاهين الهندوسي والمسلم بين الهند وباكستان، وأحادية، بالتطهير العرقي وأعمال الترحيل للفلسطينيين في اثر اعلان قيام دولة اسرائيل وبدء الحرب النظامية العربية الاسرائيلية الأولى.
أما في حالة الانسحاب الأميركي من العراق، فقد تلاشى بشكل سريع هامش استقلالية التغلب المذهبي لحزب الدعوة عن ايران، واستشرى النفوذ الايراني. ومع ان العشائر العربية فضّلت، لفترة، «صحوات» التكيّف مع الواقع الجديد، بعد ان ضاقت ذرعاً من ارتكابات جماعة الزرقاوي والتشكيلات الارهابية المماثلة، الا ان «حزب الدعوة» اصرّ على استبعاد العرب السنّة، واستصدر قرار اعدام غيابي لنائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وأخذ يزمجر ضد الحكم الذاتي لاقليم كردستان، فمن ينسى اتهام المالكي اياه، للأكراد بأنّهم وراء «داعش» وانفراط الجيش النظامي العراقي أمامه في الموصل؟!
الانسحاب الأميركي «الأوبامي» من العراق أطلق العنان لكارثة راكمت عناصرها، بشكل أساسي، ادارة جورج بوش الابن. لكن المتسبب المباشر والمنهجي بتفاقم الأوضاع هو حكم «حزب الدعوة» في العراق، الذي طرح نفسه كحزب بعث فئوي بالمقلوب، وتحول سريعاً من لعب ورقة السيادة الوطنية وأصالة المرجعية النجفية، الى فتح الباب على مصراعيه لايران.
في المقابل، أنْ ينتقل الصراع الداخلي العراقي من تناحر بين البعث القومي الصدّامي، «العلماني» نسبياً، وبين القوى المنتمية للفرع الشيعي من الاسلام السياسي، الى صراع اكثر تناحرية بين القوى الأخيرة وبين الحركية الجهادية الأممية، والمعبرة في الوقت نفسه عن حساسية اثنية مذهبية داخلية، فهذه مفارقة لا يمكن اختزالها الى مسؤوليات صناع القرار، الحكومي العراقي، أو الايراني أو الأميركي. هنا، صار التصدّع الكياني والمجتمعي العراقي قبلة لكل تناقضات العالمين العربي والاسلامي، ولـ «التصور عن العالم» كعالم ينبغي الفرار منه محملين غانمين، الذي وجد تبلوره الأمضى مع ظاهرة «داعش«.
«داعش» ليست صنيعة أحد. «داعش» نتيجة لسياسات كثيرة ولاحتقان ملتهب في الذهنيات. الانتقال من المرحلة الزرقاوية الصرف الى المرحلة الداعشية، ما كان ليحدث لولا اثنتين ايضاً: «نزوة» النظام السوري مع الجماعات الجهادية غرب العراق بما في ذلك تسهيل تدفق المقاتلين السوريين، او عبر سوريا، نحو العراق، وهي نزوة اريد بها فتح المجال لـ»دوزنة» العلاقة مع الأميركيين في المقام الأول، ثم انفجار الانتفاضة الشعبية في جنوب سوريا في وجه النظام، وانتشارها في مدن وأرياف عربية سنية، والقمع الدموي الواسع لها نظامياً، واستثمار الجماعات السلفية الجهادية لهذا الوضع سريعاً بقصد التأسيس للامارة المشتهاة حيث أمكن لها ذلك.
التوازن الكارثي بين النظام الأسدي والقوى العاملة على اسقاطه، ادّى لانتعاشة الامارات الجهادية هذه، وجاء تنظيم «الدولة» في الوقت نفسه كتتمة لهذه الامارات وكنقض لها، كرفض للتشتت الذي يفرزه فسيفساؤها، «دولة نقض» الامارات الصغيرة، ورغبة في الدمج السياسي الاستخلافي – المهدوي، شكلت وحدة العراق والشام محوراً أساسياً لها، ومفترقاً نهائياً عن «قاعدة أيمن الظواهري«.
لم يهندس اوباما وكلينتون كل هذا. ان يوجه ترامب لهما التهمة بهذا الشكل الحرفي تشهد على شطط اكيد في المشهد الانتخابي الاميركي، ويتبعه بالتأكيد شطط اوباما نفسه حين يتهم ترامب بأنّه ينسّق مع فلاديمير بوتين.
أما ان يستشهد السيد حسن نصر الله بدونالد ترامب ككلام ثقة يعتد به، فهذه واحدة من مفارقات نهاية الزمان. هناك حيز ذهني مشترك بين الاثنين: الاعتقاد بنظرية المؤامرة، ويشاركهم بها طبعاً من يكتفي بـ»داعش صنيعة النظام». الاعتقاد بأنّ ظاهرة كارثية مثل داعش هي من «فبركة» فلان وعلتان ليس بالاعتقاد الصحي أبداً، لا علمياً ولا عملياً. أفلام الخيال العلمي، المحاكة حول المسخ الذي خرج عن السيطرة ويتصدى له البطل في اللحظة الأخيرة، هي أفلام تنفع للـ»انترتيمنت»، بلا شك، مع ان تكرار الحبكة اياها يفقدنا المتعة، فيلماً بعد فيلم. المسكوت عنه في كلام السيد هو ان «حزب الله» هو بطل في فيلم من اخراج دونالد ترامب، او على ذمة ترامب، من اخراج باراك اوباما وهيلاري كلينتون.