سياسة قضية
آخر ما كان يتمنّاه اللبنانيّون «الدوليّون» أن يروا جميل السيّد يشهد أمام المحكمة الدوليّة… التي لهثوا لإنشائها. لم ولن ينسى ما فعلوه بحقه، ومعهم المحقّقون الدوليّون، باعتقاله ظلماً وبشهادات زور. كلّما ظنّوا أنّهم انتهوا مِنه، خرج عليهم أقوى، وفي لحظة أهدأ… لكن أكثر فضحاً. ها قد أصبح اليوم نائباً مختاراً مِن الشعب. ما قاله، أمس، في اليوم الاوّل مِن شهادته في لاهاي، يصعب إيجازه. كلّ كلمة هي شهادة للتاريخ، مِن شخص كان شريكاً في صنع حقبة… لم تصبح بعد مِن التاريخ.
يوم أتوا إلى منزله، دهماً فاعتقلوه، كان هو الأمني الأقوى في لبنان. هو اللواء جميل السيّد. بعد 13 عاماً سيذهب هو إليهم، إلى لاهاي في هولندا، لكن هذه المرّة هو النائب جميل السيّد. هو الآن، بمعنى أدقّ، الضابط النائب. الأمنيّون لا يتقاعدون… إلا على الورق. نائب عن الأمّة اللبنانيّة، كما في الدستور، سيقف الآن أمام قضاة المحكمة الخاصة بلبنان الذين يتقاضون نصف رواتبهم مِن أموال الأمّة اللبنانيّة. هم يعرفون أهميّة هذا، نظريّاً، أكثر مِن غيرهم. سيقول له رئيس غرفة الدرجة الأولى، القاضي ديفيد ري، مُرحّباً: «نُهنّئك على انتخابك نائباً». يبتسم السيّد. هي دورة الزمن. سيقف هذه المرّة أمام القضاة، شاهداً، لا متَّهماً، تلبيّة مِنه لرغبة فريق الدفاع.
ويبدأ جميل السيّد ببثّ الدهشة: جاء رفيق الحريري يحمل «شنطة» إلى رئيس الجمهوريّة السابق إلياس الهراوي، في بداية عهده، تحتوي على 5 ملايين دولار. تحدّثت مع الهراوي، الذي كنت مسؤولاً عن أمنه، فأخرج مِن الحقيبة مبلغ 23 ألف دولار لتُوزّع على العسكريين، قبل أن يحمل ابنه «الشنطة» ويذهب بها. هكذا تعرّفت إلى الحريري أوّل مرّة. كانت تلك الأموال خليجيّة، وكان هناك تقليد بأن تُرسِل الدول الخليجيّة المال إلى رئيس لبنان كهديّة بهذه الطريقة. ألم يندم بعد أولئك اللبنانيّون الذين دفعوا بقوّة لإنشاء محكمة دوليّة؟ هناك مَن نصحهم ذات يوم بألا يفعلوا، إلا أنّهم أبوا، والآن عليهم أن يتلقّوا هذه «الشرشحة» (الدوليّة) التي جنوها على أنفسهم. كان هذا ما أفاد به السيّد ردّاً على سؤال، في بداية شهادته التي استمرت، مع فواصل، لأكثر مِن 6 ساعات.
التحقيق الدوليّ «المُشين»
لا يقبل السيّد أن يُجيب بنعم أو كلا، فكما سمعت المحكمة سابقاً لشهادات مِن آخرين، أو «مِن لبنان آخر»، بحسب وصفه، فإنّه يُريد الوقت الكافي «لأن لدي روايتي». تستوقف هذه الكلمات القاضي ري، فتكون مناسبة ليُقرّ بأنّ لجنة التحقيق الدوليّة، قبل 13 عاماً، قد أساءت للسيّد: «شاهدت تسجيل التحقيق معك، عاملك المحقق بطريقة سيئة وغير احترافيّة. سمعت اللهجة، ما حصل معك كان مشيناً». هذا ليس إقراراً عابراً. المحكمة الدوليّة تقول ذلك عن التحقيق الدولي! هل سيكون هذا بمثابة وثيقة تمكّن المتضرّر مِن ملاحقة أولئك المحققين، وهم مِن جنسيّات مختلفة، أمام المحاكم؟ مَن يذكر حكايات «المُحقّق» ديتليف ميليس وزميله غيرهارد ليمان هذه الأيّام؟ يحاول القاضي الأوسترالي هنا أن يستوعب السيّد، وأن يُخبره أنّ هذه المحكمة ليست كأولئك المحققين، فيجيبه: «المسألة أكبر مما حصل في هذه الحادثة. السنوات الأربع التي قضيتها خلف القضبان كلّها هي القضيّة، لا مجرّد حادثة مع محقّق أتت ضمن مسار. لقد نبشوا قبري ليحصلوا على أدنى إدانة بحقي خلال سنوات عملي للابتزاز، وفشلوا».
أثناء سرد الكثير مِن التفاصيل، تداخلت التواريخ والتسميات على القاضي، فأوجز له الشاهد في أي سنوات كان في وحدات الجيش اللبناني، ثم في استخبارات الجيش في منطقة البقاع، ثم مديراً للأمن العام، الذي أصرّ أكثر مِن مرّة على تعريفه بـ«الجهاز الأمني السياسي، وهو عرفاً في لبنان بمثابة الاستشاريّة السياسيّة لرئاسة الجمهوريّة».
في وجه الحريري ومعه
تتوالى الأسئلة مِن محامي الدفاع وقضاة المحكمة على حدّ سواء. يشهد السيّد: «رفيق الحريري، في البداية، سعى ليكون له نفوذه داخل مؤسسة الجيش اللبناني، ولكن كنّا ضدّه ولم نسمح له بذلك. حاول أن يُعيّن ضابطاً محسوباً عليه في مجلس القيادة مِن الطائفة السنيّة. آخرون مِن السياسيين حاولوا، أيضاً، أن يكون لهذا ذلك النفوذ، لكن لم يفلحوا». ويتابع: «الحريري سعى في تمديد ولاية الهراوي بالتوسّط مع السوريين، ونجح في ذلك، هو مَن أسس لظاهرة التمديد هذه، التي عاد واعترض عليها عندما كان البحث يدور حول تمديد ولاية الرئيس إميل لحود لاحقاً. هو لم يرد أن يصل لحود إلى رئاسة الجمهوريّة أصلاً».
أتى رفيق الحريري بشنطة للرئيس الهراوي فيها 5 ملايين دولار مِن «المال الخليجي»
لا يكشف جميل السيّد سراً في حديثه عن دور الضبّاط السوريين الذين «كانوا يديرون التوازنات في لبنان بموجب اتفاق الطائف، بتوجيه مِن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ولاحقاً الرئيس بشّار الأسد». تحدّث عن عبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي وغازي كنعان ومحمد ناصيف ورستم غزالة. قال: «كلّ عمل إيجابي أو سلبي، قام به الحريري، لم يقم به إلا بتوافق مع السوريين في لبنان، عبر عبد الحليم خدّام، ومن جملة ذلك مشروع سوليدير في بيروت». يوضح أكثر، فيقول إنّ «الجهات السوريّة التي كانت مكلّفة إدارة لبنان ساندت الحريري أكثر مِن مرّة، ومِنها: الضغط على نواب ليصوتوا لمصلحة الحريري وإقرار مشروعه سوليدير المذكور، عبر تهديدهم بعدم وصولهم إلى النيابة مرّة أخرى… الجميع في لبنان كانوا ضمن الصحن السوري».
يستغرب القاضي ري هذه التفاصيل غير المألوفة في بلاده، فيسأل عن كيفيّة عدّ هذه الأمور طبيعيّة في «دولة». مباشرة يجيب السيّد: «عندما غادر غازي كنعان لبنان أصبح السفير الأميركي، جيفري فيلتمان، هو مَن يدير وينظّم قوانين الانتخابات». يعلّق القاضي، متعجّباً: «أهذا أفضل؟». فيردّ الأول: «بل أسوأ، لبنان دول في دولة واحدة. أنتم استمعتم سابقاً لدول مِن لبنان والآن تسمعون لدول أخرى. بالمناسبة، حتّى البطريرك (الماروني) مار نصرالله بطرس صفير أشاد بي وبعملي عندما كنت في الأمن العام. أنا أتشرّف بماضيّ».
من قلب الدولة
كان جميل السيّد أمس يتكلّم بمنطق رجل الدولة، في المحكمة، وهو الآتي فعلاً مِن قلب مؤسسات هذه الدولة، بل هو أحد بناة شكلها الأخير في حقبة «ما بعد الطائف». يقول له القاضي: «أنت صغير جدّاً لتبدو بهذه المرارة»… فيأتي الردّ: «أبدو أصغر مِن سني، إنّما لست صغيراً، أنا مواليد عام 1950، لكن لو حسمت أربع سنوات مِن عمري فسيصبح عمري أقل. كنتُ كسيارة معطّلة في مرأب… حافظت على نفسي». يتفاعل القاضي مع الحديث، مضيفاً إلى ما قاله في البداية: «اعتقالك تلك المدة بلا محاكمة مخالف لمعايير حقوق الإنسان».
بالمناسبة، إن كانت أفعال لجنة التحقيق الدوليّة بتلك الفظاعة والسوء، إثر اغتيال الحريري، فما السبب الذي جعل البعض يطلب تدويل القضيّة؟ إن كان المحققون اللبنانيّون، والقضاء اللبناني تالياً، في حالة سيئة، فهل أثبتت التجربة أنّ الأجانب كانوا أفضل؟ في التحقيق، أقلّه، ها هي المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري تعترف بما لا تودّ «جماعة التدويل» سماعه. توقّف السيّد عن هذه المسألة: «ربما لو تركوا الموضوع في أيدينا لوصلنا إلى نتيجة أفضل اليوم. نحن، في لبنان، من اكتشفنا قضية خطوط الهاتف المرتبطة بالجريمة، ونحن من اكتشف سيارة الميتسوبيتشي وغير ذلك، لم يفعل ذلك ميليس والمحققون الدوليّون. هذا ولا أنكر حصول أخطاء».
كنا نحمي مقاومتنا
بحسب جميل السيّد، لم تستطع إسرائيل أن تبتلع هزيمتها في لبنان في عام 2000، بانسحابها تحت ضربات المقاومة، المتمثلة في حزب الله. لذا قرّرت أن المقابل لانسحابها مِن لبنان هو الانسحاب السوري مِنه. وهذا ما حصل. القضاة والدفاع يسألون عن حضور حزب الله في الحكومة، قبل الاغتيال وبعده، والسيّد يقول: «كنا نحن الدولة، في لبنان، نحمي حزب الله في عمله المقاوم ضد إسرائيل. لم يستفد الحزب مِن اغتيال الحريري ليدخل الحكومة (بحسب سؤال مِن أحد القضاة)، بل على العكس، شعر الحزب بأنه أصبح بلا حماية، بعد سقوط الدولة السابقة، فقرر أن يدخل بنفسه ليحمي المقاومة مِن داخل الحكومة».
ذكّر الشاهد بإشادة رفيق الحريري، مراراً، بدور حزب الله في المقاومة وتحرير لبنان، وقرأ بعضاً مِن نصوص البيانات الوزاريّة للحكومات التي ترأسها. في سياق آخر، من ذكريات تلك الأيام، يقول: «كان وليد جنبلاط يدعوني إلى الغداء عنده، ويدعو كتلته النيابيّة للحضور. ما مِن سياسي أو صحافي زارني مرّة إلا وأخبرني أكثر مِمّا أريد. (كان هذا تعليقاً على استغراب القضاة مِن كيفية إحاطته بكل تلك المعلومات). هذه أسئلة لا تطرح على رئيس جهاز أمني سياسي». ثم يختم هذا المحور: «أقول هذا لتعريفكم إلى لبنان، لا يوجد أسرار في لبنان، وهذا من حسناته ومن سيئاته، يحتاج أكبر سرّ ربّما إلى ساعة ليكون انتقل مِن رئيس الجمهورية إلى بائع الخضر. القضاة اللبنانيّون (معكم) يعرفون هذا أكثر».
ماذا عن شهود الزور… يا محكمة!
كاد الشاهد أن ينفعل في آخر شهادته. بقي متماسكاً. كان ذلك عند حديثه عن مسألة شهود الزور، الذين «فُبركوا» للشهادة ضدّه وضدّ آخرين. قال للقضاة: «على المحكمة أن تسأل عن شهود الزور. هذا التحقيق هو ما خرّب كلّ شيء. لمصلحة مَن تضليل التحقيق مدّة 4 سنوات، ليقفز بعدها التحقيق من اتهام سوريا إلى اتهام حزب الله! عرض عليّ المحقق الدولي مقايضة، أن أقدّم ضحية «دسمة» وإلا فسأكون أنا الضحيّة. قلت له: هل لديك أي دليل على تورط سوريا لأبحث الموضوع مع الرئيس الأسد؟ قال: إلى الآن لا يوجد. قلت له: لن أشارك بنصب هذا الفخ لسوريا. لو كانت سوريا متورّطة، فأنا حليفها في السياسة لا في الجرائم، إنّما اثبتوا ذلك أولاً». ولأنّه رفض العرض، أكثر مِن مرة، كان هو الضحيّة في النهاية. أسهب في شرح تفاصيل تلك المرحلة، وما تعرّض له، وعندما أراد أن يتحدّث عن لحظة دهم منزله لاعتقاله لم يستطع أن يُكمل. بدا كمن لو أن الكلمات تخنقه. لوّح بيديه. بدت القاضية الجامايكيّة، جانيت نوسورثي، متأثرة حدّ النفور مِن سماعها لما تعرّض له الشاهد. وبما أنّه كان قد أتى على ذكر «العالم الثالث» في حديثه، قالت له بصوت خافت: «أنا مِن العالم الثالث أيضاً».
اليوم سيُكمل السيّد شهادته أمام المحكمة، وكذلك غداً، وقد يطول الأمر أكثر بعدما سأله القاضي إنّ كان بإمكانه تأجيل سفره لسماع المزيد منه. بدا القضاة، غير اللبنانيين تحديداً، أكثر دهشة لسماع حكايات جميل السيّد المشوّقة. قبل السيّد كانت تلك المحكمة قد أصبحت «فاترة». القضاة يملّون أيضاً. لعلّهم مدينون بهذا الدم الجديد، على ما فيه مِن مأساة، لفريق الدفاع الذي «قاتل» مِن أجل إيصال الشاهد إلى المحكمة. ما قاله جميل السيّد، وسيقوله، بعيداً عن الدبلوماسيّة، هو بمثابة شهادة استثنائيّة (مِن الداخل) على التاريخ السياسي لهذه البلاد.
قانون جميل السيّد!
بعد اغتيال رفيق الحريري، لا قبل ذلك، درجت في لبنان على ألسنة سياسيين مقولة أنّ قانون الانتخابات لدورة عام 2000 هو «قانون غازي كنعان». ما شهد به السيّد، أمس، وإن لم يكن يلغي دور كنعان، إنّما يُظهر أنّ ذلك القانون كان قانون جميل السيّد بامتياز. آنذاك، كان الحريري يُريد قانوناً بدوائر كبرى، فيما القوى المسيحية، وأبرزها البطريرك الماروني، كانوا يريدون الدوائر الصغرى «حفاظاً على الأقليّات». خرج السيّد بحلّ وسط بغية إرضاء الجميع، ولكي «يأخذ كلّ حقّه ولكن لا يأخذ طمعه». الشاهد، أمس، هو من تنقّل بين الحريري ووليد جنبلاط وإميل لحود وتمام سلام وسليم الحص، وغيرهم، لإخراج ذلك القانون الانتخابي. طبخ الدوائر «كما يلزم» في دوائر بيروت ودائرة بعبدا – عاليه. في مسألة أخرى، شهد أنّ كنعان اتصل به مرّة، وقال له إنّ هناك مَن أخبره بأنّه يُعرقل مشروع خصخصة قطاع الاتصالات في لبنان. أجابه: «لو كان لديك دكّان يدرّ أرباحاً أكثر مما ينتج من بيعه، هل تبيعه؟ فقال كلا». هكذا، بحسب السيّد، هو صاحب الفضل في عدم خصخصة هذا القطاع وبقائه في حوزة الدولة. حصل ذلك بين العامين 2000 و2002.