علينا أن نصارح شعبنا بالحقيقة أيًّا كان وقعها وتأثيرها بل إيلامها في صفوف الجماهير، فلا نخفي عن الناس شيئاً مما يدور في الساحة الوطنية. فليست هناك أسرار يتم إخفاؤها والتكتم عنها أو الهمس بها خفية في الكواليس ووراء الستائر المغلقة. لأن الشعب هو الأهم، وهو أولاً وآخراً صاحب المصلحة والقرار. ومن لا يصغي جيداً لنبض الشارع يفقد بوصلة الهداية الى الطريق الصواب. ونحن نعلم جيداً أن ثمة قرارات ومواقف نتخذها ليست شعبية ولا شعبوية فهي لا تدغدغ الغرائز من هنا ولا النوازع من هناك، ولا تقدم التنازلات تحت ضغط التيارات الجامحة التي تريد بنا شراً لتسقينا كأس الهزيمة المُرّة والإحباط والمرارة.
نقول ذلك الآن ونحن نصغي جيداً ونسمع كل أصوات التململ والملامة، ونعي الملاحظات الصادرة في أحيان كثيرة من مشاعر الضيق والصبر الطويل وعمق المعاناة. فلقد طالت أزمة لبنان كثيراً فسكنت أرواح اللبنانيين فضاقوا ذرعاً وهم ينتظرون ويرقبون الفرج والانعتاق. فالحقيقة كل الحقيقة أن قرار الموافقة على التمديد للمجلس النيابي الحالي لم يكن شعبوياً قط، ولم يلاقِ استحساناً في العديد من الأوساط الشعبية. ذلك لأن التمديد جاء كحلقة لا يمكن فصلها بتاتاً كأزمة عن سلسلة الأزمات التي كان علينا مواجهتها منذ انطلاقة الهجوم المعاكس الذي قاده التحالف الايراني السوري وحلفاؤه عندنا وفي طليعتهم حزب الله.
فمغامرة تموز 2006 العسكرية بوجه العدو الاسرائيلي، وبصرف النظر عن نتائجها المدمرة في الأرواح والممتلكات والأضرار الهائلة التي ألحقتها بلبنان في مختلف الميادين كانت في حقيقتها تستهدف الداخل اللبناني عندما أحدثت شرخاً عميقاً بين اللبنانيين. ذلك الشرخ الذي بدأ يكيل التهم والتجني بل التخوين بحق قوى 14 آذار وحكومتها الوطنية، ثم راحت سبحة المواقف التدميرية تكرّ: فمن احتلال وسط العاصمة التجاري وشل المرافق وتعطيل السياحة والاقتصاد، الى الهجوم العام على بيروت الغربية وصولاً للجبل وصيدا أيام 7 و8 و9 أيار عام 2008. وأمام خطر الحرب الأهلية الفاغرة فاها لتحرقنا جميعاً كان اتفاق الدوحة وانتخاب الرئيس سليمان.
كان ذلك هو التسوية الموقتة في حينه حيث جرى تدوير الأزمة ولم تجر قط معالجتها من الجذور. والدليل ان الثلث المعطل ظل سيفاً مصلتاً داخل حكومة سعد الحريري الوطنية الوفاقية. فإذا بموجة ثانية من الهجوم التحالفي المعاكس إياه يطيح بالحكومة ويستولد حكومة الصناعة السورية ليدخل لبنان معها في مرحلة جديدة أشبه بعودة مشؤومة للوصاية السورية بلا عسكر ولا دبابات ولا مدافع، فلا حاجة ما دام فريق من اللبنانيين متخم بالسلاح والصواريخ قادر في كل لحظة على فرض رؤيته ومواقفه بل أدبياته بقوة السلاح. ولم تعد من حاجة للحوار ما دام ما هو بيت القصيد وجوهر المشكلة والصراع قد تم وبقوة السلاح والأمر الواقع، خارج جدول الأعمال. فطاولة الحوار تتداول في أمور جانبية لا تمس بتاتاً جوهر الخلاف وقلبه وكبده ومحتواه. وكأن تلك الطاولة قد تحولت الى منبر أو منصة يطلق ممثل حزب الله الاملاءات والتحذيرات والتهديدات.
انفجرت الثورة السورية وبدأ النظام الأسدي ينهار، فهب النظام الايراني لخبرته بكل ما طالت يداه من تدفق هائل من الأسلحة الروسية، الى عسكريين ايرانيين الى ميليشيات مذهبية كان في مقدمها حزب الله اللبناني الذي راح يغرق أكثر فأكثر في أتون الحرب السورية ومتاهاتها الدينية والمذهبية.
وعلى إيقاع ادارة ظهره واستخفافه بإعلان بعبدا وجنوح سياستنا الخارجية للارتماء في حضن الأسدية والدفاع عنها علناً في الداخل والخارج وفي جميع المحافل والمؤتمرات، كانت سياسة حزب الله تدخل لبنان وشعبه في مرحلة جديدة عندما هب لمواجهة المعارضة السورية المسلحة في سوريا، فراح يغرق في ممارسات مذهبية ما لبثت ان استحضرت الى عقر دارنا الارهاب نفسه الذي راح لملاقاته هناك.
حقًّا إن حزب الله لمتعدد الكفاءات والقدرات، فهو قادر بحق على إمطارنا بوابل لا يحصى من المشكلات العصية على الحل، وهو يتقن بمهارة عالية التلاعب بنا. فبعد ابتداع قانون اللقاء الأرثوذكسي لمشاغلتنا واضاعة الوقت تحقيقاً لاستراتيجيته القاضية بتعميم الفراغ والشغور والخلو والخواء، إذا به يدخلنا في أزمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وعندما وحلفاؤه يعطلون النصاب القانوني لجلسات مجلس النواب ثمة من يقول بحق: هل هو جدي بصدد ايصال العماد ميشال عون لسدة الرئاسة كما عبر عن ذلك السيد نصرالله منذ أيام وهو الذي يعلم علم اليقين ان ذلك مستحيل تاريخي، أم ان سياسة حزب الله الحقيقية ترمي الى ابقاء هذا الموقع في حال مستدامة مزمنة من الشغور والفراغ؟
أي أن حزب الله لا يريد للعبة الديموقراطية أن تمر وتجري بسلام.
ثم جاء دور الاستحقاق الدستوري التالي الا وهو الانتخابات النيابية. فالأوضاع الأمنية في حالة قصوى من التوتر ابتداء من عرسال ومروراً بطرابلس وانتهاء بمشكلة ما يقارب مليوني سوري نازح الى أرضنا بحسب التقديرات. فمشكلات هؤلاء النازحين ليست معيشية تتعلّق بالغذاء والدواء والايواء فحسب بل أصبحت أمنية اقتصادية ديموغرافية تزيد أمننا غير المستقر أيضاً هشاشة واضطراباً. فهل بمقدور الجيش والقوى الأمنية مواكبة انتخابات نيابية سليمة؟ إن قبول قوى 14 آذار بقرار التمديد لم يكن شعبياً وهذا واقع علينا الاعتراف به. انما بذلك قد تداركنا الأسوأ ألا وهو شغور البلاد من مؤسسة دستورية أخرى جديدة.
هكذا أصبحنا برأي المحافل الدولية كلها دولة فاشلة عاجزة عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، عاجزة عن اجراء انتخابات تشريعية نعيش كل يوم بيومه في ظل حكومة يهددون بدفعها الى هاوية العجز.
ويطلع علينا السيد نصرالله بمقترح هو أقرب بدوره الى التعجيز والاستحالة منه لإمكانية الشروع فيه والانجاز، ألا وهو الحوار، وبلا بنود محددة قط هذه المرة.
أيها اللبنانيون، من يصدق منكم يا ترى، أن حواراً من هذا القبيل، وفي ظل المعطيات الراهنة ممكناً وقابلاً للانعقاد؟ وفي حال انعقاده بلا بنود ولا مواد ولا جدول أعمال كما يشتهي السيد نصرالله، حول ماذا سيدور النقاش والحوار؟
أحول سلاح حزب الله، سلاح قوى الأمر الواقع، لتلك الجلسة الأخيرة التي انعقدت في الأيام الأخيرة لعهد الرئيس سليمان والتي قاطعها حزب الله؟ ليس خوفاً منه وتجنباً لأن يطرح موضوع سلاحه على طاولة الحوار بل شعوراً منه بالعداء لذلك الرئيس الذي سبق له أن تجرأ وسمى الأشياء بمسمياتها. لا بل كل اللبنانيين يتذكّرون كيف في الجلسة ما قبل الأخيرة كيف تلا علينا النائب محمد رعد صك العبودية بأن سلاح حزبه خارج نطاق البحث وانه من المقدسات لا يجوز التطرق إليه على الإطلاق الخ…
أحول تورط الحزب في حربه في سوريا، تلك الورطة التي غرقت في الصراع المذهبي الدائر هناك فجلبت الى أرضنا الارهاب وممارساته السوداء، مما أدى الى استيلاد ملف شائك اسمه «عرسال»، وهذا على سبيل المثال. فحزب الله ليس في صدد سحب قواته من سوريا، بل تراه يبشرنا بقرب انتصار وشيك لبشار الأسد ونظامه خلافاً لما يراه ويستشرفه النائب وليد جنبلاط…
هل سيدور الحوار حول المحكمة الدولية التي ادعت على خمسة من أعضائه وبالفم الملآن بتورطهم في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي ما زالت جلساتها مستمرة حتى اللحظة… هل ثمة أحد منا يتخيل أن بياناً ختامياً لجلسة حوار كهذه سيتضمن اتهامات نزقة تطلق جزافاً بحق أعلى محكمة دولية على وجه الأرض؟