لا يظهر وزير الخارجية السوري وليد المعلّم إلاّ حين يكون في الأمر خطبٌ جلل. وكلما كان الوضع أصعب صارت كلماته أكثر برودة. هذا ما حصل، أمس، بعد استقباله ستيفان دي ميستورا. فما إن غادر المبعوث الدولي حتى عقد المعلّم مؤتمراً صحافياً أكد فيه أن فكرة «إدارة ذاتية في شرق حلب مرفوضة جملة وتفصيلا لأنها تنتقص من سيادة الدولة السورية على أرضها».
هل دي ميستورا عرض فعلاً تقسيم حلب؟ أم أن كلام المعلّم تمهيدٌ لتسريع الحسم العسكري في شرق المدينة؟
في المعلومات أولاً:
] بالفعل قال دي ميستورا في الاجتماع الموسّع، إنه جاء يناقش مجموعة أفكار لإخراج مسلحي جبهة «النصرة» من شرق حلب في إطار صفقة متكاملة تتضمن إدخال مساعدات طبية وإنسانية، والاتفاق على إدارة محلية هناك. لكنه قال إن ذلك يتم تحت كنف الدولة السورية، أي انطلاقاً من القانون الرقم 107 الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2011 وجرى تعديله في العام 2015 والذي يجيز إقامة إدارات محلية على الأراضي السورية في سياق اللامركزية الادارية. واقترح أن يتم الاتفاق على شكل تلك الإدارة بتوافق الأطراف والسكان المحليين الذين يتراوح عددهم ما بين 200 و250 ألف نسمة.
] رفض المعلّم الاقتراح معتبراً أنه يمس بالسيادة السورية، وذكّر بأن سوريا رفضت دائما اقتراحات مماثلة. لكنه رحّب بخروج المسلحين الى حيث يشاؤون، أي الى ادلب أو تركيا أو أي مكان آخر. مع الإشارة الى أن الخروج يتم عادة مع السلاح الخفيف فقط. وقال إن الدولة سترفع علمها هناك. لكن رأي دي ميستورا كان أنه يمكن عدم رفع أي علم في المرحلة المؤقتة، لا علم الدولة ولا العلم المثلث النجمات. طبعاً هذا مرفوض سورياً.
] فكرة ترابط شروط الصفقة أيضا مرفوضة من قبل سوريا. فالقيادة السورية تقول إن على المسلحين أن ينسحبوا أولاً ثم يصار الى إدخال المساعدات وغيرها. يبدو أن لروسيا موقفاً مماثلاً لدواع عسكرية، وهي تفضل أن يتم تنفيذ كل خطوة على نحو منفصل كي تمنع المسلحين من استغلال الهدنة.
] دي ميستورا الذي زار مؤخرا موسكو وايران سمع منهما تشديداً على سيادة سوريا على أراضيها، ورفضاً قاطعاً لأي كلام عن الرئيس الأسد أو أي نقل لصلاحياته الأساسية، وإذ قبلت موسكو فكرة الاستفتاء، فلإدراكها أن النتيجة ستكون على الأرجح لمصلحة الأسد. هي تقول بأن حكومة موسعة ودستوراً جديداً من شأنهما أن يكونا قاعدة للحل السياسي، لكن كل ذلك يجب أن يكون ثمرة نقاش السوريين بين بعضهم البعض، وكذلك مسألة هل يكون رئيس الحكومة من المعارضة أو السلطة خاضعة لنقاش السوريين، أما الوزارات المهمة مثل الخارجية والدفاع وغيرهما فلا مساس بها. الأمر القابل للتعديل قد يتعلق بالأجهزة الأمنية التي يمكن أن تنحصر بجهازين داخلي وخارجي، ويكون الجهاز الخارجي تابعاً للرئيس، والثاني قابلاً للتفاوض. لكن حتى هذا مرفوض سورياً حتى الآن.
] قال وليد المعلّم في المؤتمر الصحافي إن دي ميستورا لم يأت بضمانات من الدول الراعية للمسلحين. لكن يبدو أن المبعوث الدولي كان قد سمع من الأميركيين كلاماً يفيد بأنهم هم من سيتولون تأليب الناس على مسلحي «النصرة» لكي يخرجوا من شرق حلب. لعل هذا ما يفسر التظاهرات التي تكثفت في الفترة الأخيرة ضد المسلحين. وفي اعتقاد الأمم المتحدة أنه لو خرج مسلحو «النصرة» فإن الفصائل الأخرى سينتهي دورها، لكن لا بد من حماية السكان.
لماذا إذاً شنّ المعلّم الهجوم على دي ميستورا بعد لقائه؟
يبدو أنه يريد إيصال رسالة الى الحليف الروسي مفادها، أنه بعدما سقطت كل الذرائع الدولية، لم يعد ثمة حل سوى بالحسم العسكري، وأنه لا بد للروس من تسريع وتيرة الحرب لاستعادة شرق حلب.
تعتقد موسكو كما الأمم المتحدة وغيرهما أن «شرق حلب» صارت بحكم الساقطة عسكرياً. مع ذلك فهي حتى الآن كانت تفضّل تسوية لإخراج المسلحين وبالتالي تخفيف حجم الخسائر.
لكن هناك مسألة أخرى متعلقة بالانتخابات الأميركية. فالروس الذين نجحوا برهانهم على نجاح دونالد ترامب بالرئاسة لا يزالون كما الكثير من دول العالم ودمشق ودي ميستورا نفسه غير قادرين على معرفة حقيقة الرياح الأميركية المقبلة ووجهتها. وهنا يبرز احتمالان وفق العارفين: الأول تدفع صوبه المؤسسة العسكرية الروسية ويقول بأنه لا بد من الإفادة من فترة السماح الأميركية الحالية، والمضي قدماً لحسم شرق حلب وبدء معركة مدينة «الباب» سريعاً.
والثاني يقول: لننتظر قليلا، ذلك أن ضراوة الحرب المنتظرة في شرق حلب قد تُحرج ترامب نفسه وهذا لا يصب في مصلحة روسيا حالياً.
الواضح أن دي ميستورا الذي انتظر أشهراً طويلة قبل أن تفتح له سوريا أبوابها مجددا، وجد القيادة السورية أكثر عزماً من أي وقت مضى على الحسم العسكري وأكثر قناعة بأن الرياح باتت لمصلحتها… أما تركيا فثمة انطباع بأن الروس يسمحون لها بهامش تحرك حاليا لحفظ ماء الوجه، وأنهم، كما دمشق، يعتبرون أن تقدمها صوب «الباب» خط أحمر.