أنشأ الرئيس جمال عبد الناصر “الاتحاد الاشتراكي”، الحزب الواحد لحكم مصر. وخلَفه بعد وفاته رفيقه في “الضباط الأحرار” أنور السادات، فطرد الناصريين وأنشأ حزبه، الواحد أيضاً. وعندما اغتيل على منصة 6 أكتوبر في ذكرى أول انتصار عسكري على إسرائيل، خلَفه نائبه حسني مبارك، أول ضابط بعد جيل 23 يوليو. وأقام حزبه الواحد. ولما أُبعد انتُخب مكانه محمد مرسي، مرشّح الإخوان المسلمين، بأكثرية ضئيلة جداً، لكنه ما لبث أن شرَع في تحويل مصر إلى حزب واحد.
عندما دُعي المصريون إلى انتخاب برلمان جديد الشهر الماضي، بقوا في بيوتهم، أو في مقاهيهم، أو في حقول الوادي. لا شيء يستحق الذهاب إليه أو من أجله. لقد سئم العرب التجارب مع المستقبل وبديهيات الديموقراطية. وانتقلت مصر من ثورة 23 يوليو إلى ثورة 25 يناير، فماذا تغيّر؟ العالم العربي لا يُجيد الحكم، ويُسيء استخدام الثورة. والظلام يلفّه. وبرلمان حزب “الوفد” لا شيء يُعيده من الماضي للتألّق. والبرلمان اللبناني الذي هو إحدى أقدم الممارسات النيابية، يجتمع كل شهر ليُماحك الشعب وليُنكي الدولة ويُدندل ساقيه فوق عنق الدستور.
ليس من عربي، في قرارة نفسه، يريد المزيد من السياسة. من مصر إلى العراق، ومن ليبيا إلى سوريا، تُمارِس الأنظمة والمعارضات والثورات، احتقاراً جلفاً وقديماً لجميع معاني العمل السياسي وأحكام القانون. ولعلنا الأمة الوحيدة في التاريخ التي تندم على مرحلة أو حقبة، مثل حقبة ملك ملوك أفريقيا وعباءاته وصَولجانه ونياشينه، ونظريته الثالثة لإنقاذ الإنسانية من الاشتراكية والرأسمالية. لكن الناس تقول إن كل ذلك أفضل من بعض ما هي ليبيا فيه: مليون ليبي في تونس هاربون من فوضى العنف وفجور الفلتان.
لماذا إذاً يقترع المصري ما دام يعرف أنه لم يعد هناك مكان للحياة البرلمانية في بلاد العرب جميعاً؟ هو كان قد اعتاد مصطفى النحاس يرِث سعد زغلول، وفاروق يخضع لرأي المجلس، واللبنانية روز (فاطمة) اليوسف تتقدّم حركة المعارضة، وطه حسين وزيراً للمعارف، والآن يغرد وزير التربية على “تويتر” بعشرين خطأ إملائياً في أربعين كلمة. وتغرق مصر في التهكُّم. هذه عادتها القديمة في الترويح عن الكرب.
البرلمان العراقي والبرلمان السوري أيدٍ مرتفعة بالبصْم. وما من خطيب واحد. حزب واحد يعتبر النقاش تجديفاً، والسؤال زندقة، والمعارضة حكماً بالسجن المؤبّد. ظلّت الناس تهتف لنيقولاي تشاوشيسكو إلى أن تنبّهت ذات يوم وهتفت ضده. لم تنفعه جميع سراديب الهرب. وكالعادة، نفّذ فيه الحرس حكم الإعدام.
لا يعود الطاغية يعرف متى وأين يتوقّف. سمّى القذافي مُعارضيه جرذاناً. وعندما ضبطوه في عبّارة لنقل المياه، تطلّع في قاتليه متسائلاً في ذهول: “ماذا بيننا يا أولادي”؟ فجأة أفاق، بعد أربعين عاماً، على حقيقة العالم الذي صنعه بيديه. وفجأة سقط العالم الافتراضي المزوّر، وطوّقته مجموعة من الوحوش التي لم تتعلّم في ظلّه الحق في المحاكمة، والحق في الدفاع عن النفس، وعلى الأقل الحق في موت لائق.
بعد نصف قرن من إلغاء السياسة والقانون والحقوق والعدالة والحرية والأمل، صار البديل متوحشاً هو أيضاً. وصار الخَيار إما قاتلاً وإما مقتولاً، وليس شركة حقيقية في رفعة العيش. وإذ مُنعت النوادي والجمعيات والمحاضرات والنقاش، لم يبق من مكان للتجمّع سوى المسجد. وفي المسجد قد يكون الخطيب شيخ الأزهر وآفاقه، وقد يكون محرّضاً منغلقاً أو أجيراً عند الفتنة.
من أين يمكن أن تأتي الحياة البرلمانية إذا كانت الحياة المدنية كلها قائمة على السجون، والمنافي، والاغتيالات، وأنظمة التعليم الصدِئة، وتحريم المنافسة، وتلزيم حياة الشعوب برمَّتها لحزب واحد، يبدّل اسمه أحياناً دفعاً للملل أو انتقاماً من ذكرى المورِّث؟
نصف قرن في حياة الأمم ليست زمناً عابراً. يُولد خلاله جيلان تقريباً. وبهذا المعنى، هناك ثلاثة أو أربعة أجيال عربية لم تشهد سوى النكبات والنكسات والهزائم والانقلابات والاستبداد، والتخلّف الاقتصادي وتدهور الأخلاق وسقوط التعليم ونهْب الثرَوات. في مرحلة طويلة ما، كانت مصر والعراق وليبيا وسوريا وتونس تعيش جميعاً على عدد من الصحف أقل مما تُصدره بيروت. ودَعْك من النوعية. ودَعْك من أن بيروت الصغيرة هذه كانت تُصدّر من الكتب أكثر مما يصدُر في العالم العربي كله، عدا مصر. ودَعْك من أن كثافة العلم في جامعاتها كانت تُعادل العلم المراقَب والمكموم في البلدان الأخرى. وفوق ذلك، كان اللبنانيون يُرسلون أكبر عدد من الطلاب إلى الخارج.
تهاوى كل شيء مرة واحدة في كل مكان. أعطتنا ذريعة العمل من أجل فلسطين تمادي الغرق في التخلّف بدل المسابقة على التقدّم. وُئدت الحريات باسم فلسطين. وطُمرت الأحزاب باسم فلسطين. دُعمت الحروب الأهلية باسمها. ودُمرت الاقتصادات باسمها. واحتُلت البلدان باسمها. والنتيجة أن العالم العربي تحوّل إلى مخيّم كبير غارق في المطر والموت والأوحال وبكاء الأطفال.
“صانع المطر” فيلم جميل لفرنسيس كوبولا. وقد أصبح العنوان مصطلحاً شائعاً في وصف العامل المتواضع والطيّب الذي يأتي لمؤسسته بالأشغال والخير. عندما غرقت بيروت في الوحل الأحمر، وصارت الناس تُبحر في الطين، فكّرتُ في شيء بعنوان “صانع الأوحال”. أوحال القمامة، وأوحال السياسة، وأوحال العدَاء، وأوحال الرفض، وأوحال الفساد، وأوحال اللجاجة، وأوحال التعطيل، وأوحال الصفاقة وصلصال الشلل.
وطن يستبد به المعطّلون، من غير أن يتحمّلوا أي مسؤولية. يفرِّغون الرئاسة ويعطِّلون البرلمان ويشلّون الحكومة، ويقوّضون البلد ويخصِّبون التكارُه، ويمنّنون الناس بأنهم تركوا لهم نعمة البقاء. ألسنا ألف مرة أفضل حالاً من سوريا والعراق؟ هذا تماماً كالندم على حقبة القذافي. كأنما الإنسان في هذه الأرض لا مقياس له سوى الخراب والموت والدمار. كأنما لا حقّ للعربي في العيش مثل بقية الشعوب. كأنما يليق بهذا البلد المستقل من 70 عاماً أن لا يملك رواتب موظفيه، ولا يملك الحق في انتخاب رئيس للجمهورية. وكأنما حقوق الناس مختصرة في مكاسب بضعة اختصاصيين هم كل شيء، وقبل أي شيء، وبعد أي شيء. وباطل الأباطيل كل شيء باطل.
تمنّعت القاهرة عن الاقتراع وانصرفت إلى الاهتمام بقضية المذيعة ريهان التي صدرت قصتها على موقع “النهار” تحت عنوان “حتى العاهرة لا تُقابِل التحرّش بالصمت”. ومع الخبَر صورة المرأة الضحية التي اعتُدي عليها مرتين: الأولى بالتحرّش في “مول”، والثانية بطريقة السفه الإعلامي الذي عالج قضيتها. نحن في زمن مُنكر. القاهرة تنوء، وبغداد تُدمي، ودمشق شريدة المؤتمرات من جنيف إلى فيينا، ومن باريس إلى واشنطن، ومن موسكو إلى اسطنبول. وبيروت جبينها في التراب وساقاها في الوحل. وكل يوم تحترق عشرات ملايين الدولارات على الأسلحة والقتل وعربدة النار. ما أسعد تجّار الأسلحة، وتجّار القوارب، وتجّار التأشيرات، وتجّار الكراسي في الجنّة. أما هنا، على الأرض، فالدول التي كانت رمز الأمجاد العربية وعلومها وحضارتها، هي رمز الهواء الأصفر. وكان لنا في الماضي “أربعة أبناء” من رموز الفكر والعلم والريادة: ابن خلدون وابن رشد وابن سيناء وابن بطوطة. وصار رموزنا الأبوات: أبو حفص وأبو السلط وأبو الجماجم. و… أبو هذه الدنيا.