Site icon IMLebanon

مكتومو القيد… والبقاء على هامش الحياة

 

 

هي بطاقة، لا أكثر ولا أقل، تنقص أفراد عائلة “كرموا”، كي يستطيعوا العيش بشكل طبيعي. بطاقة، لم يؤمّنها رب العائلة لأفراد أسرته بسبب فقره، فحوّلت عائلة بكاملها إلى مكتومة القيد تواجه مشاكل أمنية واقتصادية وتربوية، لا حلّ لها إلا بتأمين المال للمحامين والانتظار الطويل لصدور الأحكام.

خارج السجن المتعارف عليه، ثمة سجن من نوع آخر. كأن يُسجن مواطن داخل منزله، ويُكتب عليه العيش ضمن أربعة جدران وإلا صار مشتبهاً فيه، عرضة للملاحقة والتنكيل. قد يستمر سجنه لسنوات ولا حق له في الدفاع عن نفسه وليس في اليد حيلة، ذلك أنه بحكم القانون لم يولَد بعد، ولا أوراق تثبت انه على قيد الحياة.

 

خارج السجن وفي داخله مظلومون، مكتومو القيد أولهم. هؤلاء ضاقت بهم سبل الحياة حتى الاختناق. هم شريحة مهمّشة تكافح من أجل الحصول على حق طبيعي. هناك ما يزيد على 35 ألف مواطن لبناني (وفق تقديرات وزارة الشؤون الاجتماعية) غير معترف بمواطنيتهم، يعيشون على هامش الحياة، تعرّف عنهم “ورقة مختار”، لا حق لهم بالتنقل او التعلّم او الطبابة او العمل… أو حتى بالحلم. وهل أقسى على والد من أن يجد نفسه عاجزاً عن إدخال ابنته الرضيعة الى المستشفى لحاجته إلى أوراق ثبوتية، أو شاب يخاف الاختلاط بمن حوله لانه غير معترف فيه!؟

 

وما يضاعف الأزمة ان يتحول مكتومو القيد الى مشكلة موروثة تنتقل من جيل الى جيل، لنصبح أمام أسَرٍ بكاملها مكتومة القيد، كما هي حال عائلة كرموا المؤلفة من 11 فرداً غالبيتها مكتومة القيد ومثلهم الكثير يعيشون في مناطق شعبية او على ضفاف المدن، يفتقدون إلى أدنى مقومات الحياة حيث يعيشون تحت خط الفقر المدقع.

…من قلة الموت

 

منذ ولادته قبل 27 عاما يعيش احمد كرموا علي، أسير منطقته. لا يمكنه التنقل او العمل لإعالة عائلته. ضيق أحوال والده المادية جعله يكتفي بتسجيل أولاده عند مختار المحلة من دون استصدار بطاقة الهوية. صار الصبي شاباً، كبر وإخوته التسعة لكنهم في دوائر الدولة لم يولدوا بعد “عايش من قلة الموت، اذا قصدت مستشفى او مستوصفاً لمعاينة ابنتي يطلبون مني بطاقة الهوية”.

 

في غرفة صغيرة، لا يدخلها نور الشمس او الهواء، يعيش احمد مع زوجته وابنتيه. أثاثها عبارة عن فراشين ومساند، هنا المنامة وهنا الجلوس، وهنا المطبخ، واما حمامها فبابه عبارة عن قطعة قماش. لا قدرة لأحمد على إعالة عائلته. شاء القدر أن يلتقي رفيقةَ عمره التي ارتضت ان تقاسمه حياته بمرّها “بنت حلال وغير متطلبة وترضى بالعيش معي على الرغم من أوضاعي”. في خلال حياته اختبر كل مراحل التعب والسوء وأمضى ست سنوات من عمره محكوماً لسرقته هاتفاً جوالاً!

 

حكمٌ قاسٍ كما الايام، وذنبه انه مولود غير موجود، او بالأحرى غير معترف بوجوده رسمياً، ولا سند قانونياً او حزبياً له، فيحلو للدولة ان تتعاطى معه كيفما تشاء لتجعله عبرة لمن اعتبر “دفعنا ثمن الهاتف مضاعفاً لكنهم استمروا في سجنه لانه مكتوم القيد” تقول والدته وهي المعيل الوحيد للعائلة من بيع الورد، قبل ان يعاود احمد استلام الحديث “حكمني القاضي 6 سنين بسبب الهوية، تعذبت كثيراً ووضعت نقطة سوداء على سجلي العدلي”. وبطبيعة الحال يمكن ان يتزوج ولكن ليس باستطاعته تسجيل زواجه في الدوائر الرسمية أو تسجيل بناته، لتتضاعف المشكلة وتزيد الاعباء.

 

في صوت أحمد غصة عبّرت عن فائض قهره: “أعيش من قلة الموت، عاجزاً، أحلم بعمل الكثير لكنني عاجز عن فعل اي شيء لتغطية مصاريف عائلتي او تحصيل بدل عبوة حليب لابنتي التي صار عمرها أربعة أشهر ولم تزل بلا هوية (يجب تسجيل الولادات في سجلات النفوس خلال المهل القانونية اي سنة من تاريخ الولادة) وقبلها اختها التي ما زالت مكتومة القيد منذ ولادتها قبل اربع سنوات. وانتظر أمي كي تعطيني مصاريفي” .

 

ويعدّتبر فحص الحمض النووي أو DNA شرطاً أساسياً لمعاملات الإثبات امام القضاء، وتتجاوز كلفته 200 الف ليرة لتصل في المستشفيات الخاصة الى 500 الف ليرة، وهو مبلغ مرتفع خصوصاً في حال تعدد أفراد العائلة ما يشكل عبئاً اقتصادياً وعائقاً أمام العائلات الفقيرة يحول دون حصولها على قرار قضائي يقضي بتسجيل الولادات. منذ مدة يحاول أحمد وإخوته تقديم المعاملات اللازمة لتصحيح وضعهم في دوائر الدولة “خضعنا وإخوتي الخمسة لفحص DNA، أوراقي في المحكمة والمحامية بتقول طولوا بالكم”. والعبارة الاخيرة مفتوحة الى ما شاء الله حيث لم تلتزم محامية في الماضي بالتاريخ الذي وعدت بإنجازها الاوراق في خلاله، بحجة حاجتها الى المال، فيما يحيل محامون آخرون الأمر الى تعقيدات قضائية تترواح بين تنحي القاضي او غيابه وما الى هنالك، وفي كل الحالات يكون المحامي الموكّل قد نال بدل أتعابه مسبقاً ما يعني ان مكتومي القيد غالبا ما يكونون عرضة للاحتيال من قبل محامين.

 

يتمنى أحمد لو كان مسجلاً في دوائر الدولة “كنت عملت كي أعيل عائلتي، وأخرج برفقتها الى حيث نريد”. يحمّل مسؤولية وضعه لوالده الذي أهمل تسجيله ويختلق له العذر لضيق حاله المادية، لكنه يسأل الدولة عن سبب التعقيد في المعاملات المطلوبة للتسجيل في دوائر النفوس”اعرف ان في بلدنا دولة لكن ما يحصل معنا يفوق طاقتنا على التحمّل: أوراق ثبوتية، وفحصوصات ومحامون، وهذا مبالغ فيه”. وما يضاعف همّ أحمد قوله “لا نعرف أحداً وليس عندنا واسطة من أحد ولا أحد يزورنا”.

 

وليس وضع وليد افضل من شقيقه، مع فارق أن أحمد تجرأ على الزواج بمن أحب، وتزوج بورقة مسجلة عند شيخ، بينما وليد يتجنب الزواج في انتظار تصحيح أوضاعه “بسبب تردي الاوضاع المالية لم أسَّجل في دوائر الدولة لأحصل على بطاقة هوية، ولذا لم اتلقَ علومي الا في سن متأخرة حيث احاول تعلم الكمبيوتر واللغة الانكليزية. نحن تسعة أشخاص أصغرنا في الثانية عشرة من عمره كان محظوظاً بنيله وأختي بطاقة الهوية بمساعدة أحد المعارف”.

الأبواب الموصدة

كلما طرق وليد باباً للعمل”أُرفَض حين يعلمون اني مكتوم القيد، واذا وجدت عملاً فلا يتم تثبيتي ولا أُدرج على قوائم الضمان او التأمين وراتبي يكون أدنى من رواتب زملائي الآخرين، وحين أراجع رب عملي يكون جوابه لا أقدر على فعل اكثر من ذلك حيث لا اوراق ثبوتية تكفل إدراجك ضمن قوائم الموظفين بشكل رسمي”.

 

وفيما يعمل الشقيق الأصغر في مقهى للمساعدة في مصاريف العائلة، لا يعمل وليد الا يوماً واحداً في الأسبوع “الأزمة التي نعانيها كبيرة وحاجتنا لبطاقة الهوية تزداد، وكلما جمعنا مبلغاً ندفعه بدل اتعاب محامين. بعضهم كذبوا علينا، واليوم تعدنا المحامية خيراً لكنها تطلب مزيداً من المال”.

 

ان تكون مكتوم القيد يعني بالنسبة لوليد “أنك لست بني آدم مثل العالم، ومحروم حتى من أحلامك” لأن “من يملك بطاقة يمكن ان يخطط لمستقبله” فيما “انا ليس بوسعي ان أحلم لأني لا أملك شيئاً. اقصى ما يمكن فعله هو ان اعمل بائعاً متجولاً في الطرقات داخل حيّنا” يكمل وليد حديثه “والدي لبناني وأمي سورية، ولا اعرف كيف أعبّر عن واقع حالنا. ولكني منذ صغري ونحن نعتاش على الدين ونعمل لنفي الدين لأصحابه، والصغير بيننا عمره ثلاث سنوات، كلنا لم نتلقَّ علومنا بسبب ضيق الحال. كنت اطمح للعمل ولتملّك منزل وتأسيس عائلة. حلمي أن أسافر وأن افعل أشياء كثيرة. حلمي الأكبر أن أكون موجوداً لا مجرد شخصية غير مثبت وجودها في دوائر الدولة وليس لها اية حقوق تتمتع بها او تمارسها”.

 

مشكلة إنسانية تعاني منها معظم الدول في العالم لأسباب متعددة منها الاهمال العائلي أو الهجرة والحروب، ومنها القوانين الجائرة ومنها ما يدخل في التوازنات الدقيقة للمجتمعات الطائفية العرقية او المذهبية. وهي تشكّل إحدى أبرز نقاط ضعف حقوق الانسان لدى هذه المجتمعات ولا سيما في بلد كلبنان. تحاول الجمعيات والمنظمات الدولية ان تولي هذه القضايا الانسانية اهتماماً وعناية ومقاربة متعددة ولكنها تصطدم بالأنظمة والقوانين المحلية، وتعيق أعمالها التركيبة الاجتماعية والطائفية وأنظمة الاحوال الشخصية، وآلية اكتساب الجنسية عدا عن بطء المحاكم في البتّ في هذه القضايا.