Site icon IMLebanon

المفتي الشهيد.. «خالد» في ذكراه الـ 28

لم يكن تاريخ السادس عشر من أيار العام 1989، يوماً كبقية الأيام في حياة اللبنانيين ولا يُشبه في أحداثه أيام السنة التي مرّت عليهم في ذلك الحين. هو تاريخ ترك بصمات من الدماء في بلد كان يرزح تحت الإحتلال السوري ومخابراته التي عاثت فساداً وخراباً وتنكيلاً بالبلد وبالشعب اللبناني من دون تمييز بين المناطق أو بين أبناء مذهب أو طائفة وأخرى. في هذا التاريخ الشاهد على إجرام النظام السوري وحكّامه منذ زمن الأب إلى زمن الإبن، طالت يد الغدر والحقد أحد ركائز الدعم والتنوّع مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، إنتقاماً منه على دوره الجامع والدعوات التي كان يُطلقها على كافة المنابر، تحت عنوان «الوحدة والحرية».

منذ ثمان وعشرين عاماً، إنفجار ضخم يهزّ بيروت وتحديداً منطقة عائشة بكّار قرابة الظهر. الدخان يظهر في سماء العاصمة التي تحوّلت إلى خليّة نحل الكل فيها يسأل عن المُستهدف. دقائق صغيرة انجلت فيها حقيقة النظام السوري باستهدافه رجلاً عاند الفوضى ووقف في وجه آلة الدمار والقتل. رجل شكّل حصناً منيعاً في وجه مشاريع الفتنة التي كانت تتربص بلبنان، ووقف بوجه كل الأطماع التي تستهدفه، فكان القرار بإزاحته عن الواجهة ليتسنّى للقاتل تنفيذ مشاريع حقده وإدخال لبنان في نفق مُظلم ظل يُرافق حياة اللبنانيين وصولاً إلى الإستشهاد الكبير الذي طال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وامتد نفق الظلام والظُلاّم باتجاه نخبة من رجال السيادة والحرية والإستقلال وآخرهم الوزير الشهيد محمد شطح.

جاء اغتيال المفتي خالد على خلفية مواقفه الداعية إلى الإستقرار بلبنان وتوحيد جهود أبنائه للخروج من حروب الغير التي كانت تدور بالبلد تحت مسميات عديدة، لكن هذه المواقف لم تكن تستهوي أسياد نظام الإجرام الساعين على الدوام إلى بث الفرقة والكراهية في نفوس اللبنانيين وإشعال الحروب بينهم، فكان أن اتُخذ قرار الإغتيال بقتل صوت العقل والضمير، ليستشهد مفتي الوطن بين أهله وناسه وهو الذي لم يترك دار الإفتاء في تلك الأيام العصيبة السوداء حيث ظل فيها يعاند الكثيرين على تخريبهم وتدميرهم للمدينة بدلاً من فتح أوصال الحوار والنقاش وتثبيت الأمن والامان والعيش المشترك على مساحة الوطن الواحد. ومن أكثر مطالب المفتي الشهيد وأبرزها، كان رفضه الدائم واستنكاره المتكرّر، للتدخل المخابراتي السوري في الحياة العامة في لبنان.

منذ ثمان وعشرين عاماً، كثر كانوا يدركون أن المعركة التي خاضها المفتي خالد في مواجهة المخابرات السورية هي التي أوصلته إلى الإستشهاد، فمنذ أن عاد فرع «الأمن الإستطلاع» (المخابرات) إلى بيروت في العام 1987 بدأت لائحة الشهداء المدافعين عن وطنهم تكبر وكان في قتل كوكبة سبقت المفتي خالد تأكيد على أن الهدف من قتل المناضلين اللبنانيين هو منع الأصوات الرافضة للتدخل السوري من اعلان مواقفها الواضحة ضد إعادة عقارب الساعة إلى زمن الظلم والغدر والإغتيالات. شهداء المواجهة مع الوصاية، كانوا يعلنون كل مرة عنواناً جديداً للمرحلة المقبلة التي سيعيشها لبنان، واستشهاد المفتي كان إعلان الإنتقال إلى مرحلة جديدة من عمليات الإغتيال السياسي والديني، مرحلة ثمنها أكبر بكثير مما مرّ على اللبنانيين.

كان المفتي الشهيد حسن خالد يعيش في آخر سنتين من عمره، التهديدات بالقتل من خلال مراسلات ومن خلال اتصالات عبر الهاتف أو من خلال أشخاص كانوا يوفدون اليه من المخابرات السورية. كان يستمع اليهم، بكل هدوء وإصغاء وإيمان بأن العمر لا ينتهي إلا بأمر من الله. لم تُرهبه التهديدات ولم تنل من عزيمته المضايقات والرسائل التحذيرية، فكان ردّه الدائم «إن هذا الموقف ليس ملكاً لي وإنما هو ملك لله تعالى وأنا مسؤول في هذا المنصب، ولا استطيع أن أُغيّر شيئاً من قول كلمة الحق، إذا اخطأت فأنا مستعد للرجوع عن الخطأ إنما في ما يخص الحق والعدل».

في السنوات الأخيرة، صار المفتي يتعاطى بحدة مع النظام السوري، لكثير من الأسباب، فهو يوم دخول جيشهم بيروت في شباط من العام 1987 شدّد على منع ارهاب الميليشيات لأهالي بيروت، ولكن بوصول المخابرات السورية، تحوّلت العاصمة مرتعاً لاشتباكات من نوع آخر يساهم النظام السوري في إشعالها. وكان قبل استشهاده بأيام، هاجم القصف الذي تتعرّض له المدينة، ووجّه أصابع الاتهام إلى من يحكم بيروت الغربية وتحديداً المخابرات السورية. كان متأكداً من أن حكم التاريخ لن يسامحه إن سكت على جرائمهم، وكذلك كان متأكداً أن جريمتهم لن تتوقف وكذلك عمليات الإغتيال التي أكملت على النائب ناظم القادري وكذلك الرئيس رينيه معوض. واليوم، وبعد كل هذه السنوات على رحيل صوت الضمير والعقل المفتي حسن خالد، يتأكد أن نظام القتل والإجرام مُكمل في مسيرته الإجرامية وبوتيرة أسرع وأعنف. ولاحقاً سيُدرك الجميع، بأن العالم سيُصبح أجمل من دون حكم آل الأسد.