Site icon IMLebanon

مفتي الجمهورية يتبنى خطاب التصعيد بلغة مسؤولة

مفتي الجمهورية يتبنى خطاب التصعيد بلغة مسؤولة

كلام نهاد المشنوق إعادة انتشار سياسية على حافة المواجهة مع «حزب الله»

فيما بلغت حكاياتُ «موسم» تموز الحزينة على الشاشات، حدودَ استعادةِ التخوينِ وتعيينَ الرؤساءِ ورسمَ حدودِ الوجود الامبراطوري.. ووصلت خربشاتُ الصحافةِ «الصفراء» حدودَ تهديدِ اللبنانيين بخمسين ألف عنصرِ فتنةٍ واحتلال.. خرق وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق جدار الصمت والتلاشي في مواجهة سياسات «حزب الله» التسلطية، ليعيد صياغة الموقف الراهن، عبر إطلاق إنذار جدي باتخاذ آخر الخيارات، بعد استنفاد محاولات الحفاظ على لبنان.

كان للكلام وقع قوي، وكان للمناسبة أهميتها الخاصة. فالموقف صدر خلال مبادرة متميزة قام بها رجل الأعمال أحمد ناجي فارس، وهو من الشخصيات البارزة في عالم الأعمال والخير، لتكريم سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، في حدث تلاقت فيه نخبة فاعلة من القيادات الإسلامية، فتكامل موقف المكرَّم مع موقف الوزير المشنوق والتقيا على استعادة سقف المواجهة لحماية الوطن من نزق المندفعين بفائض القوة إلى تدمير كل مقوّمات الوحدة والاستقرار والاستمرار في العيش ضمن الكيان اللبناني.

قالها نهاد المشنوق بوضوح: ان تيار المستقبل وصل إلى نهاية الطريق في محاولاته الغير شعبية للوصول إلى تسوية تنقذ البلد:»عملياً قدمنا كل شيء وتصرّفنا على أساس أنّنا أمّ الصبي وأبوه وخاله وعمه، ولم نترك مجالاً لأحد كي يهتمّ بالصبي غيرنا. فتبيّن بعد ذلك أنّ الامور لا تسير على ما يرام، ولا بدّ من التفكير في بطريقة ثانية. وتبيّن أنّ الاهتمام بالوطن لا يقع على عاتقنا وحدنا، ويجب أن يتصرّف الآخر مثلنا.

لقد قبلنا بأنصاف التسويات وقمنا بأنصاف المواجهات، ومع ذلك لم ينفع هذا في الوصول إلى الحلّ. كلّما تعطي أكثر يطلبون المزيد. ولم نصل إلى النتيجة المرجوّة. (لكن) التسويات لا تعني الإطاحة بالآليات السياسية. التسويات لا تعني استبدال العملية الدستورية بنظام «مجلس الخبراء». التسويات هي أنّ القرار يجب ان يكون من داخل النظام وليس من خارجه. التسويات هي أن القرار هو للمؤسسات وليس لغير المؤسسات».

واعترف المشنوق بالخسائر السياسية والشعبية الضخمة الناجمة عن الحوار مع «حزب الله»:»مددنا اليد أكثر مما  يحتَمِل أوفى الاوفياء بيننا، دفاعاً عن كلمة سواء مع شركائنا في الوطن، ولم نلقَ، صراحةً، إلا الإهمال مضموناً، والاهتمام شكلا».

شروط التسوية

ردّ نهاد المشنوق على تلاعب «حزب الله» بمصير لبنان وعلى تناقضاته التي تتمثل في تخوين خصومه في المواجهة، وتجاهل هذا التخوين عند حاجته إلى التسوية، كما حصل مع تيار المستقبل في الداخل، ومع تنظيم «الدولة الإسلامية» و»جبهة فتح الشام» في سوريا قبل بضعة عشر يوما: «إنّ التسوية تعني العودة إلى لبنان بشروط لبنان الجامع الموحد، التسوية تعني العودة إلى الدولة بشروط الدولة، لا بشروط قويّ هنا أو قويّ هناك. من هنا أقول إنّنا على مفترق طرق خطير وحسّاس بما يتعلّق بخياراتنا كفريق سياسي، في ضوء ما يجري في المنطقة وفي ضوء الحرائق المندلعة والحروب الأهلية المتنقّلة التي استدعت بشكل غريب عروض تسويات ومصالحات مع من كانوا قبل أيّام مجرد عصابات تكفير ومشاريع إسرائيلية».

أطلق الوزير المشنوق تحذيرا استشعر الكثيرون منه أنه قد يكون الأخير، بعد أن كان قد نبّه إلى مخاطر عدم الوصول إلى تسوية تعيد إنعاش النظام السياسي، لأنها ستعني السقوط في هـوّة المواجهة، وذلك بالتوازي مع سعي منه لرفع معنويات جمهور تيار المستقبل الذي يواجه تحديات داخلية وسياسية صعبة، حيث كرّر قوله:»كنّا وما زلنا طلاب تسوية، لكنّنا نرفض أن تكون التسوية اسما حركيا لأمرين هما الاستسلام أو الانتظار. نحن لسنا تياراً مستسلماً ولا تيار انتظار سياسي. نحن تيار قرار، بتمثيلكم وبمحبتكم وبقدرتكم وبقوتكم وبالتأكيد لن نقبل لحظة أن نكون تيار استسلام سياسي ولا تيار انتظار سياسي. وغدا فإنّ الأيام، والأيام القريبة وليس البعيدة، ستبيّن صحّة كلامي.. صحيحٌ أنّ خياراتنا محدودة، لكنّ خياراتنا بيدنا ولا يقرّر عنّا أحد، وعندما نمسكها بيدنا نستطيع التحكم بها على الرغم من كلّ ما تسمعونه من مشاكل وعلى الرغم من كل ما تشاهدونه من استعراضات قوّة».

ولعل المشنوق أراد من وضع  قضية استقلالية القرار والحديث عن المشاكل التي يعانيها تيار المستقبل في فقرة واحدة وفي سياق واحد.. أن يوحي بأن التيار قد يكون على وشك اتخاذ قرارات خارج سياق الضوابط الإقليمية والمحلية المعتادة، بما يضمن استعادته لحضوره داخل البيئة السنية ويضمن مكانه في توازنات الحكم، والجميع يعلم أن من أهم عناصر استعادة الحضور في الواقع السني هو رفع السقف في مواجهة «حزب الله»، وهو الخيار الذي لجأ إليه الوزير أشرف ريفي خلال مساره الابتعادي عن التيار.

بين سطور المواقف

ولعل ما يجعل لكلام الوزير المشنوق أهمية خاصة، أنه آخر العقلانيين في تيار المستقبل، وهو يحمل في شخصيته توازن القدرة السياسية على التفاوض وابتكار المخارج، وبين احتفاظه بالصلابة وبالقدرة على إخراج كل عناصر المواجهة بسرعة قياسية، وربما بعد صمت طويل.

يستطيع نهاد المشنوق، رغم تحمّله ملفات ثقيلة، ومنها إصرار «حزب الله» على إفشال الخطة الأمنية على امتداد الأراضي اللبنانية، وحصرها عمليا بطرابلس، واضطراره لاحقا لفتح أبواب الضاحية والبقاع بعد انتفاضة المشنوق في حينه.. يستطيع الوزير المشنوق أن يخلط الأوراق في خطابه عندما يريد وأن يعبّر عن عمق الحالة السنية المحتقنة االتي تعاني ضغوط الداخل والخارج، ولكنه يدرك أنها لا تزال عنصرا أساسا لا يمكن تخطيه في المعادلة اللبنانية.

ظروف وخلفيات

كلام المشنوق جاء في لحظات قذف فيها «حزب الله» بمزيد من الألغام والمفخخات السياسية، من خلال إعادة انتشار إعلامية – سياسية لما يسمى «سرايا المقاومة» التي أعلنت «الأخبار» أن لها مهمات «دفاعية» ومهمات «داخلية» أيضا، في استعادة لأجواء العدوان الذي قام به الحزب في 7 أيار 2008.

سمى المشنوق هذا التطور بـ«آخر استعراضات القوّة» الذي شكّل «مفاجأة كبيرة جداً جداً» بالنسبة له، خاصة أن هذا الملف الذي يسميه «سرايا الفتنة»، مطروح في الحوار الثنائي بين «حزب االله» والمستقبل»، وعناصرها ليسوا ممن يمكن أن تنطبق عليهم صفات النزاهة والشرف والاستقامة والكرم.

وأضاف: «قرأت أنّ سرايا المقاومة جيش من 50 ألفا وأنّ لديها مهمات داخلية. هنا أسأل: في وجه من يقف الخمسون ألفاً هؤلاء؟ وما هي مهماتهم الداخلية؟ ثم يتحدث المقال عن «واقع مبتوت في زمان مطلوب فيه راس المقاومة وأنصارها في كل لبنان ومن كل الطوائف». فعلاً هي مسألة محيّرة: كيف يمكن بناء بلد مع جهة تعتبر نفسها مستهدفة من كلّ الطوائف؟ وكيف يمكن أن تبنوا بلداً كلّ من فيه يعادونكم ويطلبون رأسكم؟».

وخلص المشنوق إلى القول إنّ هذه ليست سرايا فتنة بل سرايا احتلال. وهذا الاحتلال لا ولن نقبل به تحت أيّ ظرف من الظروف. لقد جرّب هذا السلاح مرّة وأتى بنتيجة سياسية ، لكن أقول على مسؤوليتي، أنّه مهما كان نوع السلاح. كلّ واحد يستعمل ما يريد، لكن نحن كأهل وكمجموعة وكمسلمين كلّنا قاومنا الاحتلال الإسرائيلي قبل أن تخرج الأسماء الأخيرة. وأنا من جيل تشكّل وعيه على مقاومة إسرائيل. نحن تربّينا على مقاومة اسرائيل ولن نقبل أن يتحول هذا الاحتلال إلى احتلال لبناني، بل سنقاومه بكلّ الطرق والوسائل السلمية والسياسية، ولن نقبل به تحت أيّ ظرف من الظروف وفي كل مكان وليس فقط في الحوار».

خطوط توتر عال

في الاشتباك الحاصل اليوم، ضرب نهاد المشنوق خطوط التوتر العالي لدى نصرالله، كما فعل عندما هـدّد بوقف الحوار بسبب تعطيل الخطة الأمنية، وضغط «حزب الله» لتحويل تيار المستقبل، والأجهزة الأمنية إلى «صحوات» تضرب البيئة السنية، فيما تحظى مناطق الحزب بالحصانة..

رد نصرالله بالهجوم على حكومة الرئيس السنيورة في محاولة منه لإرساء معادلة: إذا فتحتم ملف سرايا المقاومة، نفتح ملف اتهامكم بالعمالة للعدو الإسرائيلي.

في المقابل، لا يمكن لـ«حزب الله» تجاهل ما يقوله الوزير المشنوق، فهو آخر مواقع التمسك بالحوار في تيار المستقبل، بعد الرئيس الحريري، وعندما يطلق التحذير فإنه لا يطلقه للمناورة، بل إن له مفاعيل مباشرة في الحياة السياسية.

أمام حزب الله خياران: إما الاستجابة للمشنوق والتوصل إلى تحجيم واضح لظاهرة زعران السرايا، والتواضع في اللعبة الداخلية، بملفاتها المتشابكة. وإما التجاهل والدخول في أزمة علاقات ستيصيب قذائفها الحكومة التي باتت غير مجدية للمستقبل، وأكثر من حاجة لـ«حزب الله»، مع تذكير بسيط، وهو أن الحزب بمجرد القيام بأي خطوة انقلابية، سيتحول إلى قوة احتلال، من المشروع، بل من الواجب مقاومته حتى التحرير!!!

مفتي الجمهورية عاكسا سخونة الأزمة: المشنوق يمثلنا

لم يكد الوزير المشنوق ينهي مواقفه حتى بادر مفتي الجمهورية الشيخ دريان إلى تبني كلام الوزير المشنوق، مما يعكس سخونة الوضع الذي يستشعر به رجلان أحدهما في قمة الهرم الديني الإسلامي والآخر في موقع القيادة المتقدم سياسيا، مما دفعهما إلى التكامل في موقف التصعيد السياسي الصادر عن وزير الداخلية.

واعتبر دريان ان «المبادرات الإنقاذية التي اطلقها الرئيس سعد الحريري لم تكن مبادرات شخصية وانما كانت مبادرات وطنية من اجل الوطن والمواطنين، ونحن ننتظر ايضا سيلا من المبادرات، لكن ما يحقق النتيجة في النهاية هو التوافق والرئيس التوافقي، وهذا ما ادعو اليه دوما».

وختم المفتي دريان: لقد طرحت شعار تعالوا نتصارح كي نتصالح، فأي مصالحة واي وئام في قضية الوحدة الاسلامية يجب ان تكون فيه مصارحة كبيرة وهذا الامر نحن نعوّل عليه، وقد تشنّجت الامور كثيراً في فترة من الفترات وابلغني الوزير المشنوق أكثر من مرة انه ما فائدة هذا الحوار مع «حزب الله»، مؤكداً ان «بفضل المخلصين في هذا البلد لن يكون هناك فتنة سنّية شيعية ابداً».

عمق مواقف المشنوق: نقد ذاتي.. وقوة سنية كامنة

يوقن نهاد المشنوق بوجود عناصر قوة سياسية كبرى في جسم السنة لكنها تحتاج إلى تفعيل مختلف، ويدرك أن الصعوبة الكبرى تكمن في محافظته على انتمائه لتيار المستقبل وبين متطلبات قيادة شارع يتوق إلى كسر قيود كثيرة تكاد تذهب بما تبقى من صبره وعقلانيته، في وجه تسلط «حزب الله» وانطلاق تجربة جديدة يخوضها الوزير ريفي نجحت في كسب جولتها الأولى في انتخابات طرابلس البلدية.

ولعل نقطة القوة الأساس التي يراها الوزير المشنوق تكمن في الموقع الإسلامي والوطني الثابت والراسخ لدار الفتوى، على المستويين الإسلامي والوطني، خاصة بعد وصول المفتي دريان إلى رأس هرمها الأصيل، وقد أسماه «سماحة مفتي الاعتدال الوطني»، وهو محق في ذلك لأنه أرسى معادلة دقيقة شديدة التوازن وهي التصدي للفكر الشاذّ، والقضاء على ظواهر التطرف، من خلال خطاب ديني سمحٍ منفتحٍ على الآخر، لكن من دون التخلي عن الحقّ، ودون التخلي عن الدين، ومن دون التخلي عن حقيقة الإسلام».

لقد تجاوز المشنوق في هذا الطرح ما يسوّقه البعض من أن مواجهة التطرف تكمن في إخراج الدين والالتجاء إلى نقائضه، مما يولّد ردات فعل تزيد التمسك العشوائي بمظاهر التدين، ويزيد الشرخ في المجتمع المسلم.

في السياق نفسه، لم ينتبه كثيرون إلى أن المشنوق قدّم مراجعة جريئة في خطابه حول القضايا الإسلامية, واعترف أنه أخطأ في مقاربة بعض الشعارات التي تعتمدها الجماعات الجهادية، مؤكدا لن يكرّرها لأنّها «كانت حادّة وانفعالية، وبصراحة لقد طالت كثيراً من الناس الذي ما كان يجب أن تطالهم».

صحيح أن ذلك الموقف صدر عن المشنوق قبل توليه وزارة الداخلية، إلا أنه أصرّ على التراجع عنه نظرا لما ترك من أثر، وليبعث رسالة إلى كل من يعنيهم الأمر بأنه لا يرضى ببقاء أي هـوّة بينه وبين الجمهور المسلم، والملتزم تحديدا.

وفي سياق التحصين للواقع الإسلامي، نرى الوزير المشنوق يكثّف جهوده لتمكين الموقوفين الإسلاميين من توفير حقوقهم في المحاكمات العادلة، بالتعاون مع المحكمة العسكرية، الأمر الذي بات يُحدث تغييرا معقولا في مسار هذا الملف الثقيل، ويترجم أحكاما باتت أقرب إلى العدالة والمنطق، على قاعدة الاحتفاظ بالاختلاف حول أساس دور المحكمة العسكرية في القانون والسياسة، والتعاون معها لرفع منسوب العدالة بانتظار تحقيق التغيير المنشود.

معالم الخطر لا تبدو بعيدة عن حدودنا، وربما على اللبنانيين أن يعتادوا أن تكون حدود الاشتباك السياسي لدى الوزير المشنوق هي الصدام مع حزب الله واستباق الانفجار بالإنذارات الصارمة على مفترق الطرق الإقليمي الملتهب.

* منسق التحالف المدني الإسلامي.