Site icon IMLebanon

المهاجر والخيبة والفخ

 

اقترب موعد التقاعد. وعليه أن يختار. هل يتابع الإقامة في البلاد التي أعطته جنسيتها وأعطت معنى لحياته أم يعود لينام في تراب جدوده؟ في السابق كان يسارع إلى الإجابة. يقول إنه عائد فور تأمين الراتب التقاعدي. وكان إخوته يبتهجون بتعهداته لاعتقادهم أن كل مبتعد عن الجذور ضائع حتماً.

وليس سراً أن فكرة العودة كانت تطل برأسها حين كان يصطدم بصعوبات العيش وهي كثيرة. وكانت العودة تبدو مرهماً سحرياً لشفاء شعور بالغربة لا بدّ من أن يلفحك حين ترى نفسك ضائعاً وسط ثقافة أخرى وقاموس بعيد.

يضحك اليوم حين يتذكر بعض المحطات. راودته في البدايات مشاعر عدائية. كاد يستنتج أنه جاء إلى بلاد معادية. وشمّ رائحة الكراهية تحت الابتسامات العاجلة والتحيات المقتضبة. لكن طبيباً اسمه الوقت راح يعالج الجروح والكدمات.

عثر على عمل وصار لديه راتب شهري. وفي المصنع نقابة وحقوق وقواعد. التعب حاضر لكن التعسف ممنوع. وسمع كلمة القانون تتردد كثيراً وباحترام. القانون لا يسمح. القانون لا يقبل. القانون لا يجيز. وفهم أن الظلم ليس قدراً محتوماً. وأنك تستطيع الاعتراض والاحتجاج. واللجوء إلى المحكمة. وأن القاضي يستطيع الوقوف ضد الأقوياء حتى لو كانت لهم قدرة التسلق إلى هذا الموقع أو ذاك. وفهم أن المسؤولين يتحاشون كثيراً الاتصال بقاضٍ أو عرقلة سير العدالة تفادياً للفضيحة والأثمان.

انتابه إحساس غريب. شعر بكرامته. هذه ليست بلاده الأصلية. وعلى رغم ذلك تعامله أفضل من بلاده. هنا لا يستطيع جنود أن يقرعوا بابك ليلاً ويقتادوك إلى جهة مجهولة. لا يستطيع عسكري مريض أن يصبّ على جسدك كل إحباطات حياته وعقد رؤسائه. هنا لا يستطيعون اقتلاع أظافرك ولا اختصار عدد أصابعك. كل فنون التعذيب التي تبرع فيها بلداننا لم تعد مسموحة هنا. للسجين حقوق حتى ولو كان محكوماً لارتكابه جريمة مروعة.

لم يكن العيش في ظل الاختلاف سهلاً في البدايات. نحن من مجتمعات تقدس التشابه. المواطن نسخة طبق الأصل عن جاره وجده وكل مواطن مقيم في أي جزء من الخريطة. التشابه هو القاعدة الذهبية. التشابه في الانتماء. ينبوع واحد. ولون واحد. وموال واحد. كل اختلاف يفتح باب الفساد. كل سؤال يفسد الطمأنينة والبهجة. لقد أورثتنا العائلة أجوبة قاطعة عن أصعب الأسئلة التي يفضل عدم تكرارها أو الإفاضة في طرحها. هنا العالم مختلف. أفلت هؤلاء من سحر الهالات التي يحظر المس بها أو الاقتراب منها. كل شيء قيد التساؤل والامتحان. كل شيء قابل للتشريح وإعادة النظر. شعر في البداية بخوف شديد. القناعات النهائية تحميك من صقيع الانكشاف أمام الأسئلة. القناعات النهائية تعطيك قدراً من الحصانة وتمنحك طمأنينة السقف والوسادة. تساعدك في إغلاق الباب أمام رياح الشكوك والتساؤل وامتحان الموروثات.

وكان عليه أن يتدرب على العيش مع أناس لا ينتمون إلى النهر نفسه. أناس يقرأون في كتب أخرى. أناس لديهم قيم مختلفة وطريقة مغايرة في الرد على أسئلة الكون واليوميات معاً. قيمهم مختلفة وكذلك نظرتهم إلى المجتمع والقواعد التي تحكم التعامل بين أفراده. نظرتهم إلى الدولة والدستور والفرد وحقوقه والقضاء والتعليم والحرية. ولم تكن المسألة سهلة أبداً. بين رفاقه من سقط في الامتحان. من جمع أغراضه وقفل عائداً أو أقام بعدما حوّل نفسه جزيرة غريبة أو قنبلة موقوتة.

في بلاده الجديدة تزوّج وأنجب وأرسل الأولاد إلى المدرسة. ذهب الأولاد أبعد في الانتماء إلى البلاد الجديدة. ذهبوا أبعد في لغتها وعاداتها وقيمها. وخوفاً عليهم من الخسارة الكاملة لملامح بلاد أجدادهم كان يحرص على تمضية العطلات معهم في الأرض التي أبصر النور فيها. لكنه لاحظ مع الوقت أن الأولاد يزدادون انغماساً في العالم الرحب ومنطقه ورموزه وآليات تفكيره.

مرّت الأيام. تخرج الأبناء وانخرطوا في سوق العمل. عاملتهم الشركات كمواطنين كاملين. الكفاءة هي المعيار. حصل الأبناء على فرص تعادل قدراتهم. كان يعرف في قرارة نفسه أن ذلك لم يكن متاحاً في البلاد التي جاء منها. العلامات لا تكفي للحصول على وظيفة. لا بدّ من المرور عبر دوائر النفوذ. في الأمن أو الحزب أو الطائفة. وهكذا تصبح عملية التوظيف نوعاً من التجنيد، لأنك تصبح مديناً لمن أجاز لك العبور إلى الوظيفة.

حين هبَّ «الربيع العربي» على بلاده توهّم أنها ستعوض سنوات الغياب عن ركب التطور العالمي. اعتقد أنها ستسارع إلى الالتحاق بالعصر وأن المواطنين تعلموا الدرس. وحين جاءت الانتخابات كانت خيبته شاسعة. لا يكفي فتح صناديق الاقتراع في مجتمعات اعتادت أن يكون مصيرها بيد رجل قوي لا بيد دستور أو مؤسسات. أطلت قوى الماضي بقوة لتبدد الأحلام وتحول كل استحقاق إلى مشروع تمزق ومواجهة. زار بلاده مرات عدة محاولاً إقناع نفسه أن أبواب العودة مفتوحة فور بلوغ سن التقاعد.

جاء أصلاً لتشذيب أشجار الحديقة في المدينة الفرنسية الهادئة. وحين أدرك أن المقيم عربي انعقد الحديث. ولأنني أحب الحكايات رحت أسأله. استوقفتني قصته. قال إنه زار بلاده الأصلية فلم يشعر بالطمأنينة. لمس أن لا جذور حقيقية للاستقرار. وأن البلاد تبقى مهددة بولادة رجل مستبد أو فكرة مستبدة. وأنه لا يريد أن يقدم أولاده أو أولادهم حطباً لحرب أهلية أو جهوية أو لمغامرات الجيوش الصغيرة الضريرة. حكى لي عن السياسيين الجدد في بلاده. عن فاسدين ومغامرين ومتعصبين وليبراليين ومعتدلين. عن الانكسارات اليومية وتردي الخدمات وهشاشة المؤسسات. عن قلق المواطن على خبزه وحياته ومستقبله. لم يعد القرار صعباً. سيبقى في بلاده الجديدة. ختم حديثه قائلاً: «بلداننا مخيفة وصعب أن تسلمها أولادك. لن أوقعهم في الفخ الأصلي الذي هربت منه».