على عتبة ألف وأربعمائة وسبعة وثلاثين عاماً من الهجرة النبوّية المطهّرة حيث تهوي أفئدة المسلمين اليوم إلى مدينة نبيّهم المنوّرة بأنواره المحمّدية – صلوات ربي وسلامه عليه ـ تتداعى على اُمّة محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الأمم «كما تتداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها» ففي حديث نبويّ «مرفوع» عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى النَّبِيِّ أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ(…)»، ونظرة من حولنا تجعلنا نتأسى بأن الحبيب المصطفى أعلمنا بما هو كائن وجارٍ علينا من تقلّب الأزمنة والدهور والأحوال، وبصدق شديد أقول: «نعم، أشعر أنني ووطني لبنان نؤكل، وكذا سائر العالم العربي والإسلامي أيضاً، ويؤكل معنا إخواننا في هذه الأرض مسيحيّو المشرق العربي»!!
تحلّ ذكرى الهجرة النبويّة الشريفة، وإيران «فارس» يشتد طغيانها من لبنان إلى سوريا إلى اليمن إلى العراق، تفغر فاها علّها تبتلع كلّ ما هو عربيّ ، وكلّ من هو من أثَرِ الإسلام ونبيّه ـ صلوات الله عليه ـ يكره الفرس الإسلام، ويكرهون نبيّه، ويكرهون المسلمين، وقد سبقت منهم هذه الكراهية قبيل ولادة نبيّ الإسلام صلوات الله عليه، إذ رأى كسرى ملك الفُرس رؤيا قام منها فزعاً فوضع تاجه وجلس كسرى بين كبار قومه وقال لهم: «لقد رأيت رؤيا عجيبة. فقالوا: ما هي؟، قال: «رأيت إبلا صعاباً، تقود خيلاً عُرْباً، عبرت دجلة والفرات إلى أرضنا»… وإن هو إلا حين حتى كانت ليلة ولادته ـ عليه الصلاة والسلام ـ فارتجّ إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس التي لم تخمد منذ ألف عام، وجفّ ماء بحيرة ساوى، وأرسل كسرى رجاله يسألون، فجاؤوه قائلين: «لقد ولد نبي العرب».
ولـ»كسرى الفرس» حضورٌ لافت في لحظات الهجرة النبويّة الشريفة إذ يُطارد المشركون من قريش نبيّ الإسلام وصاحبه «الصدّيق» أبو بكر ـ رضي الله عنه وأرضاه، ليظفروا به ويقتلوه بعدما جاءه خبر السماء بأنّ قومه أئتمروا به ليقتلوه وأمره بالهجرة من مكّة، وكان سُراقةُ بن مالك يتبعهم في طريق الهجرة، وكان كلّما يهمّ بإطلاق سهم، والسهم كان ليصيب النبي، وأبو بكر خائف ويصرخ: «أدركنا يا رسول الله».. وسُراقة كان فارسًا شجاعًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربّه عزّ وجلّ: «اللهمَّ اكْفِنيهِ بما شِئتَ، وكيفَ شِئْتَ، إنّك على كل شيء قدير»، فيقع سُراقة، وكلما هم بأن يركب فرسه يقع مرة أخرى، فيقول سُراقة: «فعلمتُ أنّ الرَّجلَ ممنوعٌ، فقلت [سُراقة]: «يا محمد، أعطني شيئًا. فقال له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كيف بك إِذا لبست سِوَارَيْ كسرى ومِنْطَقَتَه وتاجَه؟ فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟ فقال رسول الله: «نعم أعِدك سواري كسرى»، يقول سُراقة: «فصدَّقْتُهُ، وقلتُ له: أتكتب لي كتابًا في هذا؟! فقال النبي لأبي بكر: اكتب له كتاباً في ذلك، نَعِدُكَ سواريْ كسرى»…
بعد عقد صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، أي بعد ستّ سنوات على الوعد النبوي لسُراقة بسواريْ كسرى، وجّه نبيّ الإسلام رسائله إلى ملوك وأمراء العالم ومن بين هؤلاء كانت رسالة إلى كسرى ملك الفرس، وحملها عبدالله بن حذافة السهميّ.. واختلف تلقّي الملوك لهذه الرسائل، فأما هرقل والنجاشي والمقوقس فتأدبوا وتلطفوا في جوابهم، وأكرم النجاشي والمقوقس رُسُلَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأرسل المقوقس هدايا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمّا كسرى لما قُرىءَ عليه كتابُ رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ مزَّقه، وأنقل هنا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث بكتابه إلى كسرى مع عبدالله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزّقه»، قال ابن المسيب: فدعا عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «اللهم مزّق مُلْكَه كل ممزّق» [صحيح البخاري].
وقد وقع ما دعا به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد استولى على عرش كسرى ابنه قباذ الملقب بـشيرويه، وقُتِل كسرى ذليلاً مهاناً، وتمزق ملكه بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش شيرويه إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه في مدة أربع سنوات عشرة ملوك!! أمّا «سواريْ كسرى» وَعْدُ رسول الله صلوات الله عليه لـ»سُراقة بن مالك»، فقد أنجزَ وعده بعد مرور عشرين عامٍ من لحظة لقائه النبي على طريق الهجرة، حتى كان عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ? رضي الله عنه وأرضاه ? وقد فُتِحت مملكة كسرى وفتح إيوان كسرى في المدائن، وجاءت كنوز كسرى ومنها سواراه، فجمع الفاروق عمر الناس في المسجد النبويّ، وصعد منبر النبيّ وهو يبكي ويقول: أين سراقة بن مالك؟ أين سراقة؟ يا ابن مالك، تعال يا سراقة، أعطني الكتاب وخذ السواريْن، وأَلبسه عمر إِياهما، وكان سراقة رجلًا أَزَبَّ كثيرَ شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك، وقل: اللّه أَكبر، الحمد للّه الذي سلبهما كسرى بن هرمز، الذي كان يقول: أَنا رب الناس، وأَلبسهما سراقةَ رجلًا أَعرابيًا، من بني مُدْلِج .. وقال: الحمد لله الذي أذل بالشرك كسرى وأعز بالإسلام سراقة بن مالك»…
لـ»إيران ـ فارس» وجنودها، وأعوانها، وأذنابها، افعلوا ما بدا لكم، والله لن يستقيم ملك كسرى وسيمزّق الله ملككم شرّ ممزّق مهما كان القناع الذي يخادع به الله والناس، «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» [يوسف /21]، وصدق الله الملكُ الحقُّ المبين وصدق رسوله الصادّق الوعد الأمين.