«صاعداً نحو التئام الحلم تتّخذُ التفاصيلُ الرديئةُ شكل كُمّثرى
وتنفصلُ البلادُ عن المكاتبِ والخيولُ عن الحقائبِ
للحصى عرقٌ أقبّلُ صمتَ هذا الملح أعطى خطبة الليمون لليمون
أوقدُ شمعتي من جرحي المفتوحِ للأزهار والسمكِ المجفّف
للحصى عَرَقٌ ومرآةٌ وللحطّاب قلبُ يمامةٍ»
(محمود درويش)
صديقي محمد
كان والدي يقول لي ان الأحباء لا يموتون لأن ذكراهم تبقى حية في عقول وتصرفات من هم أحياء ولمس وجود الراحلين منهم حياة من بقوا بانتظار الرحيل. صديقي محمد، قليلون يعلمون بما كان يربطني بك من علاقة حميمة، رغم أننا كنا نادرًا ما نلتقي عن سابق إصرار وتصميم، لكن لم يمر أسبوع إلا وكنا نتشاور عبر الهاتف حول الأحداث والمواقف وتقييمها. لم نكن نأبه أبدًا بكون الهواتف يتم التنصّت عليها، فلم يكن عندنا ما نخفيه، ولا ملفات خاصة بصفقة أو مصلحة أو شركة تسعى للالتزام بمشروع ما على حساب الناس. التزامنا الوحيد كان كيف يمكن حفر كوة، ولو صغيرة، في جدار الانغلاق السياسي الذي كان يطبق بسرعة على أنفاس الناس.
كانت أيضًا تجمعنا أحيانًا ذكريات سوق الخضار في باب التبانة حيث كنت أسكن وكان أهلك يشتغلون بالتجارة، فيما كنت أنت تتسلّق مئات الدرجات كل يوم صعودًا ونزولًا إلى المدرسة الإنجيلية للبنين في القبة، صيفًا وشتاءً، وكنت تحمل محفظة الكتب على كتفك كحدبة «كازيمودو» في رواية «أحدب نوتر دام»، وكانت «ازميرلدا» بالنسبة لك هي المعرفة والعلم. أريد ان أخبرك وأعلم أنني سأحزنك بأن سقف مدرستك تحوّل من غير قصد إلى مجرم سفّاح فرمى نفسه منذ أسابيع واغتال صبية كانت تسعى مثلك إلى أن تخرج من عزلة القبيلة المذهبية والطائفية إلى العالم الرحب، فكان عمرها قصيراً. لا اظن أن إدارة المدرسة في أيامك كانت ستسمح بتحويل السقف الذي يحمي من البرد ومن حرارة الشمس إلى مجرم، لكن السقف بُرّئ على كل الأحوال فلم يأت من يرعاه ويمنعه من ارتكاب جريمته النكراء. كل هذا نتيجة منطقية لانهيار الدولة وفشلها، فسقفها الذي كنت تسعى لتدعيمه أو إصلاحه، انهار علينا جميعًا اليوم، تمامًا كما توقعت أنت من سنوات، وأطبق اليأس والحزن على صدور الناس، فهرب من هو قادر بطرق شرعية، وهرب آخرون من مدينتك بالذات عبر البحر والموت لتجاوز حتمية الموت بشكل يومي في بيوتهم التي تتعفّن من الرطوبة.
يؤسفني أيضًا أن أبلغك أنّ من كنت تنصحهم لم ينتصحوا، فكان الغدر بك على باب البيت إشارة لهم بأن ينثنوا ويمشوا بالركاب، بدل الوقوف بوجه العاصفة، وإن بلطف كما كنت تفعل. ورغم الانحناء والخنوع لم يتمكنوا من الحفاظ على أي شيء فانتهوا بالانكفاء. لطفك أنت كان كالسيف القاطع في وجه أعداء اللطف والسماحة والسلام، فاعتبروك عدوًا يجب تصفيته، مثلك مثل رفيق الحريري ومثل تلك الثلة النبيلة من أبطال السلام والحرية والازدهار الذين افترسهم الوحش، وما يزال.
رسالتك لم تصل لروحاني، فقد قطع الوحش الطريق، وحتى وإن وصلت فلم يفهمها إلا بمنطق الدسيسة. اليوم، يدفع الوحش في إيران ثمن عدم وصول الرسالة أو عدم فهمها، رسالة أن الحرية أقوى حتى من حب وغريزة الحياة. وهكذا كنت، كما عرفتك، عاشقًا ومناضلًا للحرية، بعقلك الوازن وابتسامتك الهادئة وتفاؤلك الذي دفعت ثمنه بحياتك، تمامًا كما كان رفاق الدرب الذين سبقوك إلى جوف الوحش، فالمناضل من أجل الحرية متفائل دومًا بأن الغد أفضل وأرحَب.
لم يعد مهمًا الآن البحث والتنقيب عمّن حضّر العبوة الناسفة، أو زرعها في طريقك، أو تربّص بك وأنت غافل أو متجاهل أو متحدّ، فالوحش معروف للجميع مهما حاول التخفي بلباس القديسين وراح يمنّننا ببطولاته وصولاته وجولاته، وسيدفع الثمن عاجلًا أم آجلًا. لكن كل ذلك لا يهمك الآن بالمقارنة مع حزنك المضاعف لسقوط سقف المدرسة التي أطلقت مسارك نحو الحلم بوطن يشبهك، وطن مُتعال فوق الطوائف والملل والخرافات والزعماء المعصومين الفاسدين، ليكرس وطنًا للإنسان.
لست أدري كيف تسلل تعبير الاعتدال أو الوسطية ليصبح من الصفات الحميدة ليستعمل في مديح ظلك العالي. البعض مدحه على أساس أنه نقيض التطرف. لكن الاعتدال لا يعني أبدًا اتخاذ موقف في الوسط بين نقيضين عندما تطرح إشكالية الاختيار أمام البشر. الموقف المطروح في كل مرة هو الذي يفرض حدود الاعتدال وشكله، فلا يمكن أن يكون الموقف وسطياً بين الظالم والمظلوم، أو بين القاتل والقتيل، أو بين العدل والتعسف. الوسطية والاعتدال هما بالتأكيد خنوع واستقالة من المسؤولية.
لذلك، لم تكن في يوم من الأيام معتدلًا ولا وسطيًا، فقد يكون كلامك اللطيف والمهذب وسماحة تعابير وجهك توحي بعدم الالتزام، أو أنك غير مستعد للدفاع عن العدالة والحق، أو أنك ستقف على الحياد في مسائل ذات طابع أخلاقي. لكن محتوى الكلام كان دائمًا واضحًا، بالرغم من الغلاف الناعم الذي كان يلوّن أطروحاتك الجادة في السياسة.
صديقي محمد نحن نفتقد اليوم صلابتك والتزامك، لكل ذلك فقد انتقاك الوحش من بين الجميع، وهو لا يختار إلا الأفضل بيننا، لأنّ الأفضل هو، حسب قول الإمام علي، من يختار المضيّ في درب الحق الصعب والشائك والخطر ولو وحيدًا، رغم أنّ درب الشر والباطل معبّد وتكثر فيه القطعان.