يتعاطى الملك محمد السادس مع الواقع بعيداً عن أي نوع من الأوهام التي تتحكم بكثيرين في المنطقة. ليست دعوته الجديدة إلى فتح الحدود المغربية – الجزائرية المغلقة منذ العام 1994 سوى محاولة لتجاوز كلّ أنواع العقد والعمل مع البلد الجار من أجل مستقبل أفضل لشعبي البلدين في وقت تمرّ الجزائر في مرحلة انتقالية. لعلّ أفضل ما يعبّر عن هذه المرحلة الانتقالية غياب أي خيار آخر لدى الممسكين بمفاصل السلطة غير ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، المقعد منذ العام 2013 لولاية رئاسية جديدة.
اختار العاهل الغربي الذكرى الـ43 لـ«المسيرة الخضراء» ليؤكد مجدداً أن همّه لا يقتصر على ضمان مستقبل أفضل للمواطن المغربي، بل إنّ المطلوب في هذه المرحلة التفكير في المستقبل من زاوية أوسع. المغرب استعاد أراضيه بعد «المسيرة الخضراء». لا يستطيع أحد إعادة الاستعمار إليها أو خلق كيان مسخ فيها يتسبب بمشاكل لكلّ دول المنطقة وشعوبها. لكنّ ذلك يجب ألّا يحول دون إطلاق أفكار بناءة في حال كان مطلوباً التصدّي للفقر والتخلّف وظاهرة الإرهاب التي تهدّ الجميع، بما في ذلك الجزائر.
كانت كلمة محمّد السادس في ذكرى «المسيرة الخضراء» التي عبّرت في العام 1975، عن الإرادة القويّة للشعب المغربي في عدم التخلي عن حبة تراب من الصحراء، دعوة إلى التعقل والاعتدال. انّھا دعوة إلى اعتماد المنطق قبل أيّ شيء آخر. لذلك قال العاهل المغربي: «من هذا المنطلق، أود الوقوف على واقع التفرقة والانشقاق داخل الفضاء المغاربي، في تناقض صارخ وغیر معقول مع ما یجمع شعوبنا من أواصر الأخوة، ووحدة الدین واللغة، والتاریخ والمصیر المشترك. فهذا الواقع لا یتماشى مع الطموح الذي كان یحفز جیل التحریر والاستقلال إلى تحقیق الوحدة المغاربیة، والذي جسده، آنذاك، مؤتمر طنجة سنة 1958، الذي نحتفل بذكراه الستین. وقبل ذلك، ساهم موقف المملكة المساند للثورة الجزائریة في توطید العلاقات بین العرش المغربي والمقاومة الجزائریة، وأسس للوعي والعمل السیاسي المغاربي المشترك. فقد قاومنا الاستعمار معاً، لسنوات طویلة حتى الحصول على الاستقلال، ونعرف بعضنا جیداً. وكثیرة هي الأسر المغربیة والجزائریة التي تربطها أواصر الدم والقرابة. كما ندرك أن مصالح شعوبنا هي في الوحدة والتكامل والاندماج، من دون الحاجة لطرف ثالث للتدخل أو الوساطة بیننا. غیر أنه یجب أن نكون واقعیین، وأن نعترف بأن وضع العلاقات بین البلدین غیر طبیعي وغیر مقبول. ويشهد الله أنني طالبت، منذ تولیت العرش، بصدق وحسن نیة، بفتح الحدود بین البلدین، وبتطبیع العلاقات المغربیة – الجزائریة».
لم يقتصر كلام العاهل المغربي على التذكير بالماضي وبما يربط بين الشعبين الجزائري والمغربي. تعمّد الخوض في ما يمكن عمله الآن. قدّم أفكاراً عملية للخروج من وضع لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية، كما أنّه ليس مقبولاً أن يصير أبدياً، لا لشيء سوى لأن استمرار هذا الوضع سينعكس سلباً على الجميع. قال في هذا المجال: «بكل وضوح ومسؤولیة، أؤكد الیوم أن المغرب مستعد للحوار المباشر والصریح مع الجزائر الشقیقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفیة والموضوعیة، التي تعیق تطور العلاقات بین البلدین. ولهذه الغایة، أقترح على أشقائنا في الجزائر إحداث آلیة سیاسیة مشتركة للحوار والتشاور، یتم الاتفاق على تحدید المستوى التمثیلي فيها، وشكلها وطبيعتها. وأؤكد أن المغرب منفتح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بین البلدین الجارین الشقیقین. وتتمثل مهمة هذه الآلیة في الانكباب على دراسة جمیع القضایا المطروحة، بكل صراحة وموضوعیة، وصدق وحسن نیة، وبأجندة مفتوحة، ومن دون شروط أو استثناء. یمكن لهذه الآلية أن تشكل إطاراً عملیاً للتعاون، بخصوص مختلف القضایا الثنائیة، خصوصاً في ما یتعلق باستثمار الفرص والإمكانات التنمویة التي تزخر بها المنطقة المغاربية، كما ستُساهم في تعزیز التنسیق والتشاور الثنائي لرفع التحدیات الإقلیمیة والدولیة، لا سیما في ما یخص محاربة الإرهاب وإشكالیة الهجرة. ونود هنا أن نجدد التزامنا بالعمل، یداً بید، مع إخواننا في الجزائر، في إطار الاحترام الكامل للمؤسسات الوطنیة.
واعتباراً لما نكنّه للجزائر، قیادة وشعباً، من مشاعر المودة والتقدیر، فإننا في المغرب لن ندخر أي جهد، من أجل إرساء علاقاتنا الثنائیة على أسس متینة، من الثقة والتضامن وحسن الجوار».
أن يقترح المغرب عبر محمّد السادس أفكاراً عملية من أجل علاقة أفضل مع الجزائر فهو دليل قوّة قبل أي شيء آخر ودعوة إلى ربط الماضي، بما فيه من تجارب ذات طابع إيجابي بالمستقبل. لذلك قال: «نواصل الدفاع عن وحدتنا الترابیة، بنفس الوضوح والطموح، والمسؤولیة والعمل الجاد، على الصعیدین الأممي والداخلي. ویتجسد هذا الوضوح في المبادئ والمرجعیات الثابتة، التي یرتكز عليها الموقف المغربي، والتي حددناها في خطابنا بمناسبة الذكرى الثانیة والأربعین للمسیرة الخضراء. وهي المرجعیات نفسها التي تؤسس لعملنا إلى الیوم. كما یتجلى في التعامل، بكل صرامة وحزم، مع مختلف التجاوزات، كیفما كان مصدرها، والتي تحاول المس بالحقوق المشروعة للمغرب، أو الانحراف بمسار التسویة عن المرجعیات المحددة. اما الطموح، فیتمثل في تعاون المغرب الصادق مع السید الأمین العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريس)، ودعم مجهودات مبعوثه الشخصي قصد إرساء مسار سیاسي جاد وذي مصداقیة. كما تعكسه أیضاً، المبادرات البناءة، والتجاوب الإیجابي للمغرب، مع مختلف النداءات الدولیة، لتقدیم مقترحات عملیة، كفیلة بإیجاد حل سیاسي دائم، على أساس الواقعیة وروح التوافق، وفي إطار مبادرة الحكم الذاتي».
في الإمكان المتاجرة بقضية الصحراء المغربية إلى ما لا نهاية. في الإمكان استغلال هذه القضيّة المفتعلة للإساءة إلى المغرب ومنعه من تكريس كل موارده من أجل الاستثمار في التنمية، التي هي تنمية بشرية قبل أي شيء آخر. ولكن ماذا بعد ذلك؟ من يستفيد من أي عرقلة للانطلاق بالمنطقة كلّها، أي بالجزائر والمغرب والدول القريبة منهما، نحو فضاءات مختلفة بعيداً عن المناكفات والاستثمار في كلّ ما يمكن أن يخدم التطرّف والتخلّف؟
وضع محمد السادس عبر خطاب الذكرى الـ 43 لـ«المسيرة الخضراء» الأسس لمرحلة جديدة تتجاوز المملكة. يُفترض أن يسعى المسؤولون في كلّ دول شمال أفريقيا إلى العمل على بلوغ هذه المرحلة التي تقوم قبل أيّ شيء آخر على التخلي عن أفكار بالية. في نهاية المطاف، استطاع المغرب في السنوات الـ 24 الماضية، أي منذ إغلاق الحدود بينه وبين الجزائر من تطوير نفسه. هذا لم يمنعه من التفكير بضرورة أن تنسحب تجربته على غيره من دول المنطقة، بما في ذلك الجزائر. المغرب قادر على الاستفادة من الجزائر والجزائر قادرة على الاستفادة من المغرب. لا تفيد القطيعة في شيء.. أما قضية الصحراء فهي ليست قضية إلّا بالنسبة إلى الذين يستخدمونها لخدمة أهداف معينة. من بين هذه الأهداف ابتزاز المغرب. كان ذلك ممكناً في مرحلة معيّنة تجاوزها الزمن. من يريد ابتزاز المغرب هذه الأيّام هو مثل من يريد ابتزاز نفسه ولا شيء آخر غير ذلك..