%10 من بلديات لبنان منحلّة كليّا و30% تعاني من الشواغر
الصراعات الفئوية الدائرة في بعض البلديات الكبرى، على غرار بلديتي بيروت وطرابلس، تتصدّر العناوين مؤخّراً. هذا بالطبع انعكاس غير مفاجئ لصراعات سياسية تجري من فوق. لكن من قال إن مشاكل البلديات تقف عند هذا الحد؟ هي جميعها ممدّد لها بعد مرور موعد الانتخابات البلدية في أيار الماضي مرور الكرام. منها ما هو مستحدث ومنها ما هو معطّل. بعضها منحلّ وبعضها الآخر يغلي جمراً تحت الرماد. لكن فوق هذا وذاك، فلنتّفق، لنهوّن على أنفسنا، أن الفراغ وضرب مواعيد الاستحقاقات هو سيّد الموقف على جميع المستويات. البلديات تعيش في الوقت الضائع.
بالقانون والأرقام نتناول في ما يأتي واقع البلديات، والمنحلّة منها على وجه الخصوص. ففي حين يبلغ عدد المجالس البلدية حالياً 1,055، تضمّ 12,474 عضواً، ثمة فقط 944 منها مما لا يزال قائماً ويواجه خطر التعطيل، 84 مجلساً منحلّاً كلّياً ويدير أعماله القائمقامون أو المحافظون، و27 مجلساً مستحدثاً بعد انتخابات العام 2016 وتخضع إدارته أيضاً لهؤلاء كونه لم يشهد أي انتخابات بلدية حتى اليوم.
الغندورية، حوش الرافقة، جب جنّين، بقعاتة عشقوت، ميروبا، العقبة، الفنار، عرمون، الميّة وميّة، بشامون وروم. هذه جميعها أمثلة عن مجالس بلدية تمّ حلّها منذ العام 2016، واللائحة تطول. فمتى تُعتبر البلدية منحلّة؟ وعلى من تقع مسؤولية تصريف الأعمال في هذه الحال؟ هل يُعفى الرئيس والأعضاء من مسؤولياتهم وكيف يُعاد تفعيل عملها، لا سيّما في ظل تأجيل الاستحقاق الانتخابي البلدي؟ ثم ما هو دور وزارة الداخلية والبلديات (نعم، البلديات)، وما تداعيات كل ما يجري على الوضع الإنمائي المتآكل أصلاً؟
هكذا تُحلّ البلدية
نذهب مباشرة إلى وزير الداخلية السابق، زياد بارود، الذي أوضح في حديث لـ»نداء الوطن» المعايير أو الشروط التي توافق على أساسها وزارة الداخلية على حلّ بلدية ما. بارود شرح لنا كيفية تنظيم قانون البلديات الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 118 لعام 1977 لحالات الشغور في المجلس البلدي، قائلاً: «إذا شغر ربع المراكز على الأقل في مجلس ما، يجري انتخاب أعضاء للمراكز الشاغرة للمدّة المتبقية من الولاية، وذلك خلال فترة شهرين من تاريخ شغور آخر مركز. وفي هذه الحال، نكون أمام انتخابات فرعية دون حلّ المجلس».
ماذا لو فقد المجلس نصف أعضائه أو أكثر؟ «عندها يُعتبر منحلّاً حُكماً. هنا، يتوجّب على وزير الداخلية أن يعلن الحلّ بقرار يصدر عنه خلال أسبوع على الأكثر من تاريخ إبلاغ الوزارة. وإلا اعتُبر سكوته بمثابة قرار ضمني بالحلّ (بحسب المادة 23). وفي حال حُلّ المجلس، يُصار إلى انتخاب مجلس جديد في مهلة شهرين من تاريخ قرار الحلّ»، يجيب بارود.
المحامي ميشال فلّاح، المتخصّص في إدارة البلديات، يخبرنا عمّن يتولى أعمال المجلس البلدي إلى حين انتخاب المجلس الجديد، حيث يقوم القائمقام أو رئيس القسم الأصيل في القضاء والمحافظ أو أمين السرّ العام في مركز المحافظة بالمهام الموكلة إليهم، بحسب المادة 24 من القانون، وذلك بقرار من وزير الداخلية. وعليه، يكون المحافظ أو القائمقام هو صاحب القرار في إدارة البلدية المنحلّة، وتكون كل القرارات أو الأعمال الروتينية، بتوقيع المحافظ. ويضيف فلّاح: «حيث أن حجم المسؤوليات الواقعة على عاتق المحافظ، موقعاً وجهازاً، هي أساساً كبيرة، فكيف إذا أضفنا إليها مسؤولية إدارة شؤون البلديات المنحلّة؟ عندها ستصبح الأخيرة رهينة، لا سلطة لمجلسها المنحلّ عليها ولا وقت كافياً للمحافظ لإدارتها بشكل فاعل ودؤوب». فما تداعيات ما يحصل على تأمين الاحتياجات والمطالب الملحّة؟
قرابة 30% من المجالس البلدية في لبنان تعاني من الشواغر وأقل بقليل من 10% منها منحلّ تماماً. هي نسب ملفتة، لكن، مع ذلك، تمّ تجاوز الانتخابات البلدية الفرعية مع إبقاء البلديات المذكورة في عهدة المحافظين أو القائمقامين الذين تقع ضمن نطاق عملهم. مع الإشارة إلى أن المحافظ أو القائمقام يدير في بعض المناطق أعمال أكثر من بلدية واحدة في آن. «هذا ما أدّى إلى تراجع العمل البلدي والإنمائي وحفظ
النظام في عدد كبير من البلديات، حيث لا قدرة للمحافظ على المتابعة اليومية في ظل ما هو موكل إليه بالأصل من واجبات. ويمكن لنا تخيّل ما ستؤول إليه الأمور إذا ما ازداد عدد البلديات المستقيلة، اعتراضاً على التمديد أو لفقدان التمويل أو لأي سبب آخر»، يعلّق فلّاح.
نسأل، والحال كذلك، عن المسؤولية والالتزامات التي تقع على عاتق رئيس البلدية المنحلّة وأعضائها تجاه الأهالي والمنطقة، فيشير فلّاح أن «رئيس المجلس البلدي أو نائبه أو العضو الذي يتولى أعمال السلطة التنفيذية يُعتبر قانوناً مسؤولاً من الوجهة المسلكية، ويتعرض للعقوبات التأديبية إن هو أخلَّ بالواجبات التي تفرضها عليه الأنظمة والقوانين، بالرغم من إنذاره، في حال أدّى ذلك إلى إلحاق الضرر بمصالح البلدية». وتتراوح العقوبات التأديبية بين «التنبيه والتأنيب»، وذلك بقرار من وزير الداخلية، وبين «التوقيف عن العمل» لمدّة لا تتجاوز السنة، بقرار من الهيئة التأديبية الخاصة. الملاحقة التأديبية، بدورها، لا تحول دون الملاحقة عند الاقتضاء أمام المحاكم المدنية والجزائية المختصة.
كما تجدر الإشارة إلى أن هذه العقوبات وغيرها إنما يتوقف السير بها عند حلّ المجلس البلدي. فالأعضاء والرئيس الذين يفقدون الصفة لاتخاذ القرارات وتنفيذها، يبقون خاضعين للملاحقة التي تغطّي الفترة التي سبقت تاريخ قرار إعلان البلدية المنحلّة، فقط لا غير.
الانتخابات حاصلة… إلا إذا
إلى السؤال الجوهري دُرّ: ماذا لو لم تحصل الانتخابات البلدية في موعدها الجديد المقرّر في أيار المقبل؟ في معرض ردّه، استبعد بارود تأجيلها مرة ثانية، موضحاً: «من المعلوم أن موعد الانتخابات البلدية الأصلي كان في أيار 2022 وهي تأجّلت بداعي التزامن مع الانتخابات النيابية. الانتخابات ستحصل ما لم تطرأ ظروف فائقة التأثير قد تبرّر التأجيل الذي يبقى تحت رقابة المجلس الدستوري». إلى ذلك يتعيّن على المجالس المنتخبة عام 2016 أن تستمرّ بتأدية مهامها، أما المجالس المنحلّة فستبقى هي الأخرى تحت متابعة وإشراف المحافظ أو القائمقام.
نعود إلى فلّاح الذي اعتبر أنه، تفادياً لتأجيل جديد للانتخابات، «على القوى السياسية «الموضوعية»، كما هيئات المجتمع المدني بكل تلاوينه، والإعلام وغيرهم من الجهات الفاعلة في صناعة رأي عام ضاغط، العمل بشكل جدّي ومكثّف للضغط باتجاه إجراء الانتخابات، ورفض كل شكل من أشكال التأجيل مهما كانت مبرّراته، لأن إجراء الانتخابات يبقى الخيار الأمثل على كافة المستويات».
فالاستحقاق الانتخابي، إضافة إلى مدلولاته لناحية احترام مواقيت الاستحقاقات الدستورية، من شأنه احترام العملية الديمقراطية عبر تظهير رغبة الناس بالتغيير والمحاسبة. كذلك، فهو يساهم في تفعيل العمل الإنمائي البلدي على المستويات المناطقية كافة لما لذلك أن يعطي من جرعة دعم ضرورية لإعادة استقامة الأوضاع في البلد. ناهيك بإمكانية تحرير البلديات عامة، و»الدسمة» منها خصوصاً، من قبضة القوى السياسية التي رفضها الرأي العام في الانتخابات النيابية الأخيرة، على حدّ قول فلّاح.
التمديد وإشكاليّاته
جيّد. لكن، حتى الساعة، لا تزال صورة الاستحقاق البلدي ضبابية مثل الكثير من الاستحقاقات الأخرى المتأرجحة بين الحصول واللاحصول. فهل يتحمّل البلد فراغاً فوق فراغٍ؟
«الحلّ هو دائماً في تطبيق القانون واحترام المهل والوكالة الشعبية التي لا يجوز تخطّيها عند انتهاء ولاية مجلس منتخب»، بحسب بارود. فالبلديات عصب أساسي في الإطار اللامركزي ما يوجب تعزيزها، وليس العكس. صحيح أن صلاحياتها واسعة قانوناً لكن وارداتها متواضعة ولا مبالغة في القول إنها باتت شبه معدومة منذ اندلاع أزمات البلد الأخيرة. هذا دون أن ننسى الرقابة الإدارية المُبالَغ بها. من هنا، يؤكّد بارود على ضرورة إقرار قانون اللامركزية الإدارية الموسّعة ورفد البلديات بواردات تسمح لها بتأدية مهامها.
من ناحيته، يرى فلّاح أن تأجيل الانتخابات البلدية لمدّة سنة شكّل ضغطاً كبيراً على المجالس البلدية، كما على المحافظين والقائمقامين الذين يديرون أعمال البلديات المنحلّة في نطاقهم. «يترتّب على التمديد إشكاليات إدارية في البلديات التي تضع مشاريعها لسنوات ست. كما أنه أصبح من الصعب وضع مشاريع لمدّة عام إضافي نظراً للظروف المالية الضاغطة المحيطة. التأجيل هو بمثابة تمديد اللاعمل، أو تمديد العمل الأساسي وضمن الإمكانات التي تسمح بها الفترة الزمنية كون المجالس البلدية تعمل وفق خطط سنوية قصيرة وطويلة المدى».
هل هناك تداعيات سلبية أخرى؟ طبعاً. فَتَحْت وطأة الأوضاع الاقتصادية المزرية، يبرز ضعف الإمكانيات. ومعه لن تتمكن البلديات من رسم استراتيجية عمل لعام كامل ستليه انتخابات. الضعف سيطاول البلديات معنوياً أيضاً، من مجلس منتخب إلى مجلس ممدّد له. فالقرارات لن تكون حازمة كما أنها لن تلقى وقعاً مؤثّراً عند الناس. بكلام آخر، هي مضاعفات ستنهمر من كل حدب وصوب.
أمر آخر يلفت إليه فلّاح، ألا وهو عدم احترام التمديد لرغبة رؤساء البلديات، الذين اكتفى بعضهم بتجربة السنوات الست للمجلس غير راغبين بتمديد مسؤولياتهم. وتساءل: «كما في المجالس البلدية القائمة ولايتها على المداورة (مدّة كل منها 3 سنوات) بين عائلتين أو حزبين، من سيتولّى أعمال البلدية في السنة الإضافية؟».
ماذا بعد؟
أمام الاستحالة القانونية لإعادة النظر بالتمديد، يبدو أن عديد المجالس البلدية المنحلّة سيرتفع بشكل تصاعدي، نتيجة الخلافات الناجمة عن التمديد. فالإجراء الأخير أظهر إلى العلن الثغرات والمشكلات التي كانت تعتري عمل المجالس الممدّد لها.
وفي وقت تغيب أي ضمانات بعدم حلّ المجالس البلدية إذا ما استمرّت الخلافات نفسها داخلها، إضافة إلى التعثّر المالي الذي تعيشه نتيجة عدم الجباية الصحيحة من البلديات داخل نطاق صلاحياتها (حيث يعمد المجلس البلدي الى جباية «عالقطعة»)، يرى فلّاح أن ما يحكم المجالس حالياً هو تفهّم ظروف المكلّفين الصعبة، من جهة، واستمالتهم كناخبين للاستمرار في البلدية لولاية جديدة، من جهة ثانية.
وهناك ما هو أبعد من العجز المالي والاقتصادي. إذ يؤكّد فلّاح المؤكّد حيث أن بعض البلديات تعاني أيضاً من شلل إداري وانقسام حاد بين أعضائها، وهو أمرٌ يعطّل آليات العمل ويستوجب حلولاً سريعة. مع هذا، فالتدخلات السياسية في بعض البلديات عطّلت عملها وساهمت في «تكبيل» رؤسائها وجعلهم غير قادرين على التحرّك.
أخيراً. التعاون الكثيف بين بعض المجالس البلدية والمنظمات الدولية والجهات المانحة، تعويضاً عن انعدام قدرة الدولة على تأمين تمويل كافٍ لمشاريع عديدة تحتاجها البلدات والمدن، يمدّ تلك المجالس بنَفَس للصمود. لكن هذا لا يعدو كونه حلاً موضعياً ولا يلغي السؤال – اللغز: هل يحمل أيار المقبل انفراجات على شاكلة انتخابات بلدية أم أن مفاعيل إنجاز الاستحقاقات الفاصلة، أو عدم حصولها من أصله، ستزيد الطين بلّة؟