من يراقب العلاقة بين رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل يكتشف حقيقة دهاليز السياسة اللبنانية ومكائدها ومكامن «البيع والشراء»، فكل ما يُحكى في الإعلام وفي العلن شيء، وما يُطبخ في الغرف المُغلقة شيء آخر.
أطلّ باسيل عبر وسائل التواصل الإجتماعي ليُخبر اللبنانيين والمناصرين عن تقديمه تضحية كبيرة تتعلّق بقبوله التمديد للمجالس البلدية والإختيارية في زمن الفراغ الرئاسي، ناسياً أو متناسياً أنّ الفراغ الرئاسي يزول بمجرّد نزوله إلى جلسات انتخاب رئيس الجمهورية مع الحلفاء السابقين والإقتراع للرئيس الذي يريد، فالمقاطعة وتطيير النصاب من أبرز الأسباب التي أدّت إلى إبقاء الموقع الأول للمسيحيين بلا رأس.
لكن وللمفارقة، فقد سُجّلت للمرة الثانية على التوالي عملية إنقاذ سريعة قام بها برّي لباسيل بعدما وصفه باسيل عام 2018 بـ»البلطجي»، ما أظهر للعلن وجود تفاهم تحت الطاولة يقضي بتمرير التمديد بسلاسة وبغطاء مسيحي، ما يُسقط «التيار الوطني الحرّ» مسيحياً بعدما كان هناك شبه إجماع مسيحي بعدم حضور أي جلسة تشريعية في ظل الفراغ الرئاسي.
وإذا كانت حجة تأجيل الإنتخابات البلدية والإختيارية تقنية، إلّا أنّ تأكيدات وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي على قدرة الوزارة على إجراء الإنتخابات متى تأمّن التمويل، تفضح كل الإدعاءات، في حين كان يُفترض بـ «التيار الوطني الحرّ» الذي يملك معظم الحصة المسيحية الوزارية، وقبلها رئيساً للجمهورية، أنّ يصرّ خلال العام الماضي على شمول الموازنة بند تمويل الإنتخابات البلدية والإختيارية.
وتُثبت الوقائع كيف خططت الطبقة السياسية إياها لتطيير هذا الإستحقاق، فمجلس الوزراء كان متردداً بالرغم من تأكيدات وزير الداخلية على إمكان إجراء الانتخابات من الناحية التقنية، لكن هذه التأكيدات لم تعلّق عجلة ذهاب مجلس النواب إلى التمديد.
وبما أنّ معظم الكتل الممثلة في الحكومة شاركت في عملية التمديد، فهذا الأمر يفسّر تأخُّر مجلس الوزراء في إقرار إستخدام حقوق السحب لتمويل الانتخابات، وسط تناغم بين بعض القوى السياسية مثل حركة «أمل» و»حزب الله» و»التيار الوطني الحرّ» و»التقدّمي الاشتراكي» و»الإعتدال الوطني» وبعض المستقلّين لتأجيل الانتخابات خوفاً من خوضها وهم غير جاهزين.
واحتاج قرار التمديد إلى الغطاء المسيحي، فأمّنه باسيل بعد التقاء مصلحته مع أركان المنظومة. ويأتي إصرار باسيل على التمديد للمجالس البلدية والإختيارية ضمن سياق الخوف من النتائج خصوصاً بعدما أظهرت الإنتخابات النيابية تراجعاً حاداً في شعبية «التيار».
في 15 أيار 2022، هبّ «حزب الله» وحركة «أمل» لإنقاذ «التيار الوطني الحرّ» و»نفخ» كتلته النيابية لكي تتمكّن من الوقوف في وجه «القوات اللبنانية»، حينها تحالف باسيل مع برّي في عدد من الدوائر مثل جبيل – كسروان، بعبدا، زحلة، البقاع الغربي وراشيا، بعلبك – الهرمل، بيروت الأولى والثانية، وعكّار، وصبّ «الثنائي» كل جهوده لتكبير كتلة «التيار» مُضحياً بحلفاء سوريا، وكسب باسيل من هذا التحالف 8 نواب ما سمح لكتلته بمحاشرة كتلة «القوات» من حيث العدد.
اليوم، وبعد انكشاف «التيار» مسيحياً ونهاية العهد، كانت هناك مخاوف جدّيّة من تراجع كبير في حضور «التيار» بلدياً واختيارياً في البلدات والمدن المسيحية، وهذا الأمر لم تنكره كوادر «التيار البرتقالي»، وأول تلك التراجعات سيحصل في قضاء البترون حيث سيخسر باسيل أولاً معركة رئاسة الإتحاد وعدداً لا يُستهان به من بلديات القضاء بعد خسارته أكثر من 3 آلاف صوت في الإنتخابات النيابية. وما يُطبّق على البترون ينطبق على أقضية الشمال المسيحي، فحضوره يتراجع في زغرتا والكورة، وغير موجود في قضاء بشرّي.
أما في جبل لبنان، فهو غير قادر على حصد بلديات جبيل وقرطبا وعمشيت التي تعتبر من أكبر بلديات قضاء جبيل، في حين لن يستطيع المواجهة في بلدية جونية عاصمة كسروان، وسيخسر عدداً من بلديات المتن الشمالي، بينما الأغلبية المسيحية في قضاء بعبدا منحت أصواتها لـ»القوات اللبنانية».
وبالنسبة إلى زحلة، فالنائب العوني سليم عون نجح بفعل تحالفه مع حركة «أمل» و»حزب الله»، وبذلك سيغيب «التيار» عن بلدية مدينة زحلة لأن العامل الشيعي في «عاصمة الكثلكة» غير مؤثر، والأمر نفسه سينسحب على بلديات البقاع الشمالي والغربي، بينما سيبقى التشرذم متحكماً بصفوف «التيار البرتقالي» في جزين بسبب فصل النائب السابق زياد أسود عن «التيار».
وأمام كل هذه الوقائع يتضح لماذا هذا الإصرار العوني على التمديد وضرب الإستحقاقات الدستورية، فخوض معركة في هذا التوقيت والخلافات تعصف بالبيت الواحد ستكون له تداعيات سلبية على أي تيار أو حزب فكيف الحال بالنسبة إلى «التيار الوطني الحرّ» الذي يتراجع مسيحياً ويخف تأثيره على المستوى الوطني.