Site icon IMLebanon

معارك بلديات ما بعد “الطائف”: الإنماء غائب ونفوذ السلطة الحاضر الأكبر

 

يتفاجأ المسؤولون السياسيون في لبنان عند اقتراب كل استحقاق إنتخابي وكأنّ الإستحقاق حُدّد قبل ساعات قليلة، بينما الحقيقة أنّ الروزنامة الإنتخابية اللبنانية أكثر من واضحة ولا تحمل لبساً ولا تترك مجالاً للمفاجآت. ينصّ الدستور اللبناني والقوانين الملحقة على أنّ انتخابات رئاسة الجمهورية تجرى كل 6 سنوات، والإنتخابات البلدية والإختيارية كل 6 سنوات أيضاً، بينما تدور رُحى الإنتخابات النيابية كل 4 سنوات. هذا ما ينصّ عليه الكتاب كما أطلق عليه الرئيس الراحل فؤاد شهاب. أمّا عملياً فإنّ جمهورية ما بعد «اتفاق الطائف» شاهدة على خروقات متواصلة للدستور عكس جمهورية ما بعد الإستقلال، فمنذ توقيع «الطائف» حتى يومنا هذا، بات الدستور وجهة نظر، والسياسيون يطبقون نظرية «القوانين وضعت لتُخرق» لا لتطبّق.

 

وفي لائحة لخروقات الإستحقاقات الدستورية وعدم الإلتزام بالمواعيد، تبقى البداية مع استحقاق رئاسة الجمهورية الذي يُخرق إمّا تمديداً او فراغاً، كما وقعت الإنتخابات النيابية بدورها ضحية التمديد.

 

خروقات بلدية

 

وكما شاب الخرق الإنتخابات الرئاسية والنيابية، كذلك لم تسلم الإنتخابات البلدية والإختيارية من «تشوّهات» جمهورية ما بعد «الطائف». فالخرق الأول حصل عملياً بعدما سكتت المدافع في 13 تشرين 1990، عندها بدأ «شيء» من الدولة يعود ولو كان تحت سلطة الإحتلال السوري، لكن السلطة حينها استمرّت بالتمديد للمجالس البلدية والمخاتير تحت عنوان الضرورة، أو بحجة أن الجنوب لا يزال يخضع للإحتلال الإسرائيلي.

 

لكن هذه الحجج لم تقنع من هو حريص على الدستور، فالمجالس البلدية والإختيارية كانت ممدّدة منذ ما قبل الحرب، والجزء الأكبر ممن يتولى الإدارة المحلية كان بالوكالة أو تحت سلطة القائمقام، وبالتالي فإنّ أهم بنود «إتفاق الطائف» كان تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة والتي لا تستقيم من دون إجراء إنتخابات للمجالس المحلية.

 

وأنصف المجلس الدستوري عام 1996 من يريد إجراء الإستحقاق البلدي والإختياري، حين أكّد أنّ التمديد للمجالس المحلية مخالف للدستور ويجب إجراء الإنتخابات فوراً، لكن في تلك المرحلة كانت السلطة القائمة متحكّمة بمفاصل اللعبة لذلك لم تأبه لمثل هكذا قرار قضائي.

 

مقاطعة وبناء زعامات

 

جرت أول إنتخابات بلدية وإختيارية بعد الحرب عام 1998 خلال الفترة الأخيرة من الولاية الممددة للرئيس الراحل الياس الهراوي، والملاحظ أنّ هذه الإنتخابات جرت بعد انتخاب للمجلس النيابي في دورتي 1992 و1996 وبعد انتخاب رئيسين للجمهورية وتمديد رئاسي. وقد اعتُمد النظام الأكثري، ولم يطرأ أي تغيير جذري من حيث الشكل على الإنتخابات التي كانت تجرى قبل الحرب.

 

قاد وزير الداخلية آنذاك ميشال المرّ الإنتخابات، وعلت الأصوات المعترضة على إدارة المرّ للعملية الإنتخابية واستغلال النفوذ لتثبيت زعامته المتنية وبناء زعامات محلية لبعض حلفاء سوريا، وقدّ كرّست هذه الإنتخابات زعامة المرّ في المتن بفوزه بمعظم بلديات القضاء، واخرى لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية في زغرتا وبعض بلدات الشمال المسيحي، في حين سيطر الرئيس رفيق الحريري على بلدية بيروت والتي كانت هذه الخطوة أساسية لتثبيت زعامته السنية ولعدم عرقلة المشاريع التي كان ينوي تنفيذها في العاصمة خصوصاً أنّ زعامة الحريري كانت طرية العود، في حين أنّ مقاطعة الأحزاب والتيارات المسيحية المعارضة للإنتخابات كُسرت في إطار محلي وليس سياسياً، واستفادت الزعامات المسيحية المحلية من سجن قائد «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع ونفي العماد ميشال عون وغياب المشاركة من أجل الفوز بمعظم المخاتير والبلديات، بعدما تجددت المقاطعة السياسية المسيحية.

 

وإذا كان حلفاء سوريا سجّلوا الإنتصار الأبرز، إلّا أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي استغل إنشغال «حزب الله» بالمقاومة وأفول نجم الزعامات الشيعية البقاعية والجنوبية مثل آل أسعد وآل حمادة، ليثبت زعامته الشيعية، بينما فاز رئيس الحزب «التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط بمعظم بلديات الجبل، لكن الأكيد أنّ البلديات كانت أداة إضافية للسلطة الحاكمة ولم تشكّل حافزاً لإنطلاق عجلة الإنماء والتطوير.

 

الشرذمة ومحاولة التحجيم

 

لم يتغير مشهد إنتخابات 2004 البلدية كثيراً عن انتخابات 1998، فالأجواء السياسية لا تزال كما هي، الوصاية السورية مسيطرة على الأرض، القبضة الحديدية للنظام الأمني تشتدّ، الأجهزة بإمرة الرئيس اميل لحود ومن خلفه عنجر، الحريري عاد أقوى بعد انتخابات 2000 النيابية، جنبلاط لا يهتزّ في الجبل.

 

وفي هذه الدورة، أدار وزير الداخلية الياس المرّ العملية الإنتخابية، وما ميّز تلك الفترة عشية الاستحقاق، عنصران أساسيان، الأول تجمّع المعارضة المسيحية، سياسياً، تحت عنوان لقاء «قرنة شهوان» والتي كانت قد سجّلت إنتصاراً كبيراً على رمز السلطة حينها النائب ميشال المرّ في انتخابات المتن الفرعية حتى لو تمّ إبطال نيابة المرشح غبريال المرّ لاحقاً، أما العنصر الثاني فهو محاولة السوري تحجيم بري وحركة «أمل» وإظهار حجم «حزب الله» كسند لاحق لتركيبته السياسية والأمنية.

 

لكنّ المعارضة المسيحية عادت وتفرّقت في تلك الانتخابات ولم تخض معركة سياسية كما خاضت إنتخابات معركة المتن الفرعية، لا سيما وأنّ البلديات هي مجموعة مصالح وتقاطعات عائلية وسياسية، خصوصاً وأنّ البلدية التي خاصمت السلطة خلال عهد لحود والسيطرة السورية تمّت معاقبتها ولم تحصل على الخدمات. وبالتالي وأمام سطوة الأجهزة والنفوذ أعاد المر انتصاره في بلديات المتن وحافظ الحريري على تواجده في بيروت بينما حاول السوري منعه من التمدد إلى عكار والضنية في محاولة لتحجيمه أيضاً، وأصيب جنبلاط بنكسة في بلدة الدامور المارونية، حيث كان يطمح للفوز ببلدية موالية له لتمرير احد المشاريع الكبرى بينما حافظ على وجوده في البلديات ذات الطابع الدرزي.

 

وأمام طحشة «حزب الله» البلدية في الجنوب والبقاع الشمالي بدعم سوري، تجنّدت حركة «أمل» للحفاظ على أهم مواقع للسلطة المحلية، وكادت الأمور أن تنفجر يومها بين «الثنائي الشيعي» خصوصاً أن السوري كان مصرّاً على تحجيم بري، فلجأت قناة الـNBN التابعة لـ»امل» إلى عرض إنجازات بري ومجلس الجنوب، فكانت النتيجة تحقيق «حزب الله» فوزاً كبيراً في بلديات البقاع الشمالي، وحافظت «امل» على وجودها الجنوبي وحصدت البلديات المهمة.

 

وعلى رغم الخيبة التي تعرضت لها القوى المسيحية المعارضة، إلا أنّ هذه الإنتخابات شكّلت بداية نهاية المقاطعة الكلية لتصير عنواناً للمواجهة السياسية خصوصاً في الأقضية ذات الطابع المسيحي، واستفادت من التذمر الذي بلغ ذروته من تصرفات السلطة اللبنانية وداعمها السوري.

 

2010 والعودة المسيحية

 

عهد جديد أطل على لبنان عام 2008 هو عهد الرئيس ميشال سليمان، يومها كان هناك اتفاق إقليمي ودولي على احترام الاستحقاقات الدستورية، فأجريت الإنتخابات البلدية عام 2010 بقيادة وزير الداخلية والبلديات زياد بارود، وكان هذا الإستحقاق البلدي الأول الذي يخاض بعد عودة القوى المسيحية الفاعلة، وعلى رغم الحدّية التي كانت تطبع العلاقات بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحرّ» وتفوق «التيار» حينها إلّا أنّ انتخابات مدينة جبيل كانت الأبرز مسيحياً، يومها تلقى «التيار الوطني» الضربة الأكبر في المنطقة التي كان يعتبرها عقر داره، ففاز المرشح زياد حواط برئاسة بلدية جبيل ومنها انطلق نحو زعامة محلية ونيابية حيث اتخذت علاقة حواط مع «التيار» طابعاً صدامياً منذ تلك الإنتخابات.

 

و لم يهضم العماد ميشال عون الذي كان صاحب التكتل المسيحي الأكبر خسارته وهو في قمّة زعامته للشارع المسيحي، حتى قيل إنّ خسارته بلدية جبيل نغّصت فوز عون في المقاعد النيابية الثلاثة في جزين.

 

أما متنياً فأصيب «التيار الوطني الحر» أيضاً بنكسة، فهو كان يستعد لخوض معركة شرسة، بسبب تجذّر رؤساء بلديات «عتاق» في بلدياتهم ما صعّب المهمة على «التيار» الذي اضطر إلى ابرام تفاهمات بلدية معهم ومع القوى الحزبية والزعامات المحلية. في حين كرّست الإنتخابات تفوّق «القوات اللبنانية» في قضاء بشرّي وسيطرتها على بلدياته واتحادها.

 

أما سنياً فقد حافظ الرئيس سعد الحريري على زعامته بعدما خاض أول إنتخابات بلدية منذ ترؤسه زعامة «المستقبل»، ولم يسجل أي خرق يذكر في الشوف وعاليه، بينما فاز «الثنائي الشيعي» بمعظم البلديات في مناطق نفوذه على رغم بعض المزاحمة العائلية.

 

إنتخابات 2016

 

جرت إنتخابات 2016 في ظل الشغور الرئاسي، وقاد العملية وزير الداخلية نهاد المشنوق، وحصلت مفاجآت كثيرة وأبرزها طرابلس حيث فاز اللواء اشرف ريفي على القوى السياسية التي تحالفت جميعها ضدّه، وكرست هذه الإنتخابات التحالف القواتي- العوني المستجد، وكانت هذه الإنتخابات فاتحة لإجراء الإنتخابات الرئاسية بعد صمود «تفاهم معراب» والذي انهار بعد تولي عون الرئاسة. لكن هذه المجالس مُدّد لها سنة بعدما تزامنت الإنتخابات البلدية والإختيارية مع النيابية العام الماضي.

 

في الشكل فإنّ الإنتخابات البلدية كانت تجرى وفق القوانين المرعية، لكن في المضمون فإنّ العقلية التي كانت تخاض بها الإنتخابات إما سياسية أو عائلية بينما يغيب الإنماء عن برامج لا تحترم، وبالتالي فإنّ البلديات لم تؤدِ وظيفتها كما هو مطلوب، وشكل معظمها جزءاً لا يتجزأ من أدوات الطبقة الحاكمة التي ثار عليها الناس في 17 تشرين لكنّه لم يكمل ثورته.