إستحقاق 2016 البلدي بعد الـ”ميني ثورة”: الضحية تنتخب جلّادها!
من يراقب الإستحقاقات الإنتخابية في لبنان بعد «الطائف» يستطيع أن يبني عليها ليعرف مستقبل هذه الإستحقاقات، ففي عام 2016 كان الجميع يتوقّع تأجيلها بسبب الفراغ الرئاسي الذي كان متحكماً بالبلد منذ 2014، والأزمة السورية في أوجها، و»داعش» و»النصرة» يحتلان أجزاء من جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، والتأزّم السياسي والأمني وصل إلى الذروة بعد تفجيرات الضاحية الجنوبية، وإنتفاضة النفايات عام 2015 التي أطلقت «ميني ثورة» ضدّ السلطة، كلها عوامل جعلت من الإستحقاق الإنتخابي في تلك الفترة صعب الحصول.
لكن أمام التعطيل المتمادي للإستحقاق الرئاسي والتمديد المتتالي للمجلس النيابي، عقد وزير الداخلية والبلديات آنذاك نهاد المشنوق العزم على إجراء الإنتخابات البلدية والإختيارية رافضاً فكرة التأجيل. ويُعتبر المشنوق من الأشخاص المنخرطين في الواقع السياسي، وهو يعلم أن إجراء مثل هكذا إستحقاق يحتاج إلى توافق سياسي، لذلك بدأ مشواره بجولة على القوى السياسية منذ مطلع 2016 واضعاً القوى السياسية أمام الأمر الواقع وهو عدم السماح بالتمديد للمجالس البلدية والإختيارية.
توقّع الجميع فشل المشنوق، لكن إدارته للمعركة مرّرت الإستحقاق بسلاسة وجرت الإنتخابات على أربع دفعات وفق المحافظات. ومع إنتخابات الجنوب دارت رحى الإنتخابات الفرعية في جزين حيث فاز المرشح أمل أبو زيد بمقعد جزين الماروني.
عقلية الناخب لم تتغيّر
في المشهد العام، لم تكن إنتخابات 2016 على قدر التوقعات، فهذه الإنتخابات أتت بعد عام تقريباً على إنفجار أزمة النفايات في لبنان، فكان مشهد أكياس النفايات المكدّسة في شوارع بيروت والضواحي العلامة الفارقة، لكن كل هذه العوامل لم تدفع اللبنانيين إلى المحاسبة والذهاب إلى صناديق الإقتراع وفق عقلية جديدة وهي أن البلديات مدخل للإنماء وبرامج التطوير، وليس ساحة للعراك السياسي والعائلي، فعادت المجالس البلدية صورة طبق الأصل عن مجالس 2010 و2004 و1998، وكأنّ الضحية تنتخب جلادها مرّة أخرى.
«لعبة» السياسة
عادت السياسة لتلعب لعبتها في استحقاق 2016، فقد نُظمت الإنتخابات على أربع مراحل، المرحلة الأولى كانت في 8 أيار وجرت في محافظتَي بيروت والبقاع، المرحلة الثانية كانت في 15 أيار ودارت رحاها في جبل لبنان، أما المرحلة الثالثة فجرت في 22 أيار في الجنوب، ومسك الختام كان مع إنتخابات الشمال في 29 أيار التي حملت أكبر المفاجآت.
بيروت والبقاع: زكزكات بلا مفاجآت
كانت العملية الإنتخابية باردة بعض الشيء في بيروت، فعدم تقسيم العاصمة ونشوء إئتلاف سياسي كبير بين القوى السياسية الرئيسية بقيادة الرئيس سعد الحريري ساهما في التخفيف من حدّة المعركة، فأهالي بيروت لم يكونوا راضين عن مثل هكذا تركيبات وخصوصاً أهالي الأشرفية والجوار، ما دفع رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع إلى مخاطبة أهالي المنطقة والقول: «إن القانون الإنتخابي يفرض مثل هكذا بلديات وتحالفات لكن هذه المرّة الأخيرة التي نقبل بهذا الشيء». وربما شكّل إختيار الحريري بلال حمد لترؤّس بلدية بيروت الشعرة التي قصمت ظهر البعير مع شقيقه رجل الأعمال بهاء الحريري، ودفع ثمنها في إنتخابات طرابلس بسبب المشاكل بين بهاء الحريري وحمد.
وتجرّأت لائحة «بيروت مدينتي» على خوض الإستحقاق الإنتخابي في وجه إئتلاف الحريري وكادت أن تحقّق خرقاً، فالأرقام التي حققتها كانت كفيلة بالبناء عليها، لكن أعضاء اللائحة انقسموا بعد هذا الإستحقاق ولم يشكّلوا حالة سياسية.
وتوجهت الأنظار في ذلك اليوم إلى مدينة زحلة التي تشكّل أكبر مدينة مسيحية في الشرق، ونجح تحالف «القوات» و»التيار الوطني الحر» و»الكتائب» والعائلات في إسقاط رئيسة «الكتلة الشعبية» ميريام سكاف في البلدية وإسقاط مقولة «زحلة مقبرة الأحزاب»، ولذا كانت تلك الإنتخابات مفصلية في تاريخ المدينة.
أما في البقاع الشمالي، فقد حاول «الثنائي الشيعي» السيطرة على البلديات الشيعية ونجح إلى حد ما على رغم الأرقام التي حققها منافسوه، في حين سيطرت «القوات اللبنانية» على معظم البلديات في دير الأحمر والجوار وصولاً إلى معظم البلديات المسيحية وعلى رأسها القاع.
جبل لبنان «مختبر التفاهم»
خيضت إنتخابات 2016 البلدية في البلدات المسيحية تحت شعار «أوعا خيّك» وقد كرّست التفاهم القواتي – العوني، لكن هذه القوى لم تحسب حساباً للعامل المحلي والعائلي الذي ظل طاغياً. ففي تلك الإنتخابات أعاد رئيس بلدية جبيل زياد الحواط تثبيت زعامته الجبيلية، وإذا كان الوزير السابق شربل نحاس خلق له معركة عبر إحدى مرشحاته التي بقيت وحيدةً بوجه لائحة الحواط، إلا أن الرجل نجح في تجديد الثقة الجبيلية به، إذ بلغت نسبة الإقتراع في مدينة جبيل أكثر من 70 في المئة في إنتخابات محسومة النتائج.
أما مدينة جونية فشكّلت أكبر إختبار للتفاهم القواتي – العوني، فقد سارت غالبية القوى السياسية في معركة دعماً للائحة «جونيه التجدد» وعلى رأس تلك القوى «القوات اللبنانية» والنائب جبران باسيل والنائب نعمت افرام وعدد من الشخصيات الكسروانية، لكن دخول العميد المتقاعد شامل روكز على خط المعركة ودعمه للرئيس السابق لبلدية جونية جوان حبيش «خربط» الحسابات، فأحرج «التيار» وجرّ العماد ميشال عون إلى دعم حبيش مع أن باسيل كان مع التوافق، فاضطرت «القوات» إلى عدم الدخول في المعركة تحت حجة أنها لا تريد ضرب التفاهم وإحراج عون في جونية وتخسيره.
متنياً، أعادت الإنتخابات البلدية معظم رؤساء البلديات إلى مراكزهم، ونجحت الأحزاب الرئيسية في المتن في الدخول بقوة إلى البلديات على رغم نفوذ رؤسائها الذين إضطروا إلى تقديم تنازلات حزبية، لكن المشهد العام عاد إلى ما كان عليه سابقاً، في وقت لم تشهد إنتخابات بعبدا وعاليه والشوف أي مفاجآت تذكر.
مفاجآت الجنوب والشمال
أكثر ما يعلق في الأذهان من إنتخابات 2016 هو معركة مدينتَي جزين وطرابلس، فإذا كان «الثنائي الشيعي» حصد معظم بلديات صور والزهراني وبنت جبيل والنبطية، ومثله فعل تيار «المستقبل» في صيدا، إلا أنّ بلدية مدينة جزين شهدت معركة ضمن البيت البرتقالي الواحد، ففي تلك الإنتخابات «تقاتلت» أجنحة «التيار» في جزين واستغل منسّق «القوات اللبنانية» في جزين سامر عون مع مجموعة من المرشحين «القواتيين» المتحالفين مع «التيار» هذا الأمر وفازوا جميعاً وحصدوا أرقاماً عالية. وساهم في هذه النتيجة بشكل مباشر آل الحلو الذين انشقوا عن «التيّار» بسبب رفض العماد عون التنازل عن خليل حرفوش كرئيس للائحته البلدية في جزين لمصلحة مرشح آل الحلو.
أما في طرابلس فقد سُجّلت مفاجأة من العيار الثقيل، حيث فاز مرشّحو «القوات» و»التيار» ومستقلّون بمعظم البلديات ذات الطابع المسيحي، وفاز «المستقبل» بالعدد الأكبر من بلديات عكار والضنية، فأتت الضربة من عاصمة الشمال حيث وقف اللواء أشرف ريفي بوجه تحالف الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وكل نواب طرابلس والمرجعيات، وفاز ببلدية طرابلس ما شكّل جرس إنذار للحريري، والذي شعر أنّ زعامته في أكبر مدينة سنية اهتزت، وكُسرت حتى، ما دعاه إلى إجراء نقد ذاتي ودراسة أسباب الخسارة.
مجالس بلدية ترحل وأخرى تُنتخب، لكن يبقى الإنطباع العام أن معظم البلديات في لبنان لا تعمل خصوصاً البلديات الكبرى، لذلك لم تشكّل إنتخابات 2016 منعطفاً في دور البلديات على رغم أن النفايات غمرت لبنان، مثلما لم تؤدِّ إنتخابات 2022 إلى قلب المشهد السياسي بعد كل هذا الإنهيار وطوابير الذل أمام محطات الوقود والأفران والصيدليات. لذلك، هل من يراهن على تغيير في الإنتخابات البلدية المقبلة؟
يمكن أن تُطلق أوصاف كثيرة على استحقاق 2016 البلدي والإختياري، لكن الوصف الأدق هو إجراء الإستحقاق بحدّ ذاته بعدما كان الجميع يتوقّع أن يلاقي مصير الإنتخابات النيابية حينها ويسلك طريق التمديد.