يقلّب المواجع حديث تأجيل الانتخابات البلدية، ليس لأنّ تلك الممارسة المشينة جديدة أو دخيلة على سلوك «البوطة» المتحكّمة بمفاصل السلطة، وهي ارتكبتها مرّتين في السنتين الأخيرتين، بل لأنّها تعمّق يأس اللبنانيين من عدم انتظام عمل المؤسسات المنتخبة، ومن الاستهتار بالتزام مواعيد الاستحقاقات.
ولا تحيل الاجتهادات الفارغة التي تنطّح لها بعض نواب الممانعة ونظرائهم من الرماديين في الاجتماع الأخير للجنة الدفاع والداخلية النيابية، إلّا إلى السياق غير المسؤول المرافق لاستحقاق الرئاسة. وهو دُشّن بتطيير المُهل الدستورية، ثم أُتبع بتنظير معتَوِر لحق التعطيل، فهبط بطموحنا لملء فراغ بعبدا إلى أدنى المواصفات، بدل التطلّع إلى رئيس «بني آدم» يُذكّر العالم بأن شعبنا يزخر بالكفاءات ويرفض الرؤوس المرتهنة أو سقط المتاع.
معظم تجارب الشعب اللبناني مع البلديات لا ترفع الرأس. فباستثناءات قليلة، قيّض لبعض القرى والبلدات والمدن رؤساء بلديات وأعضاء همّهم رفع مستوى الخدمات وتطوير العمل البلدي ليشمل الجوانب الاجتماعية والإنمائية والبيئية والثقافية. ففضائح التنفّع والرشاوى من أصغر بلدية في دسكرة الى أكبرها في العاصمة على كل لسان، وأدراج القضاء مملوءة بملفات علاها الغبار، ولا فرق هنا بين قضاة متقاعسين ومرتكبين يتمتعون بالحمايات.
وإذ لا يختلف عاقلان على أنّ البلديات اليوم في أسوأ أحوالها بفعل تفكّك الدولة وانعدام السيولة وضيق ذات يد الموازنات ونهب صناديق ادّخار بلديات كانت ميسورة، فإنّ ما لا خلاف عليه أيضاً هو أنّ تجديد دمائها بالانتخاب وإيلاء مسؤولياتها إلى راغبين في الخدمة، وليس الإثراء، ضرورة ملحّة، خصوصاً لسدّ عجز الدولة المركزية المتخلّية عن كل شؤون الناس، ولو بالنزر اليسير من الإمكانات المحلية.
ليس مطلب تأجيل الانتخابات بقرار إداري يُصدره وزير الداخلية أو بقانون من البرلمان، إلّا صنيعة الخائفين من افتضاح أمر حظوتهم السياسية والأخلاقية لدى الناخبين بعدما أفسدوا في الحكومات والرئاسات، أو أولئك الذين يبيعوننا استراتيجيات ومشاغلات وكرامة ليل نهار، فلا يجدون الوقت للتلهّي بـ»توافه» الانشغالات ويتجنّبون التنافس داخل بيئة يريدونها كالبنيان المرصوص في خدمة مغامرات المحور ومصادرة القرار.
الانتخابات البلدية استحقاق يجب أن يدخل في صلب نقاش جدّي مفتوح على دور الدولة واللامركزية والفيدرالية. وفي هذا الإطار يمكن مثلاً التفكير في تقسيم بيروت إلى دوائر تتعدّد بلدياتها ويوحّدها مجلس نختبر معه نموذج لامركزية موسّعة. فإما تنجح التجربة لنتمسك باعتمادها صيغة للنظام السياسي تقود إلى الإصلاح وتنزع التوترات، أو تفشل فيتابع كل شريك مفترض الغناء على ليلى مشروع رؤيته لمستقبل لبنان.
وزير الداخلية مسؤول عن هذه الانتخابات. يمكنه استثناء الجنوب موقتاً والتزام مواعيدها في كل لبنان. إصراره عليها بصراحة يحصّنها إزاء المعطّلين، أما أسلوبه الوعظي فيشجّع أصحاب النيّات الخبيثة ويفسح لهم المجال لنسف الاستحقاق مستلهمين «اجتهادات» الرئيس بري لتعطيل الرئاسة، علماً أنّها «بِدع» عليه دفع كفّارتها في رمضان!
جنود الاحتلال في غزّة انتخبوا بلدياتهم على وقع المعارك. هي إسرائيل لم تهزمنا صدفة رغم أنها معتدية ونحن أصحاب حق، بل لأنها أرست مؤسسات، واحترمت تداول السلطة ومواعيد الانتخابات، ووضعت رؤساء جمهورية وحكومات وراء القضبان، ولم «تقبع» قضاة. أليس كذلك؟