يمر الكلام عن تأجيل الانتخابات البلدية بين إهمال مقصود من القوى السياسية، وحسابات ضيقة من مجتمع مدني كان يفترض أن يخوض حملة ضغط لإجرائها، في موازاة حملة النقابات والمقاعد النيابية
من أكثر ما تفتّق عنه عقل بعض اللبنانيين نتيجة أزمة المحروقات، أن بعض أصحاب المحطات الكبيرة بدأوا يعدّون العدة للترشح إلى الانتخابات البلدية. وبعضهم تضاعف طموحه في الأسابيع الأخيرة، ليباشر حملته الانتخابية لرئاسة البلدية، حتى لو لم يكن من «العائلات الكبرى» التي تعتبر أنها وحدها يحق لها الترشح لهذا المنصب.
أخبار مرشحي المجالس البلدية والاختيارية في الأشهر الأخيرة أكثر من أن تحصى، فكما أن المال الانتخابي النيابي صار عنصراً أساسياً في حملات المرشحين للنيابة بسبب ارتفاع سعر الدولار، واستخدام النفوذ لتأمين المازوت والبنزين، فإن مرشحين للمخترة أو للبلدية باتوا يقودون حملاتهم، حتى وهم خارج لبنان، ومعظم الطامحين يعملون في الخارج في دول عربية أو أفريقية، (رغم أن القانون يمنع وجودهم بشكل متواصل في الخارج) على تأمين الخدمات للقرى في الشتاء عبر تقديم المازوت والمساعدات الغذائية والمنح المدرسية، مستفيدين من فارق العملة بين لبنان وحيث يعملون. فضلاً عن أن الموجودين في لبنان باتوا يستخدمون أزمة البنزين والمازوت والموتورات منصّة خدمات لتجييش قاعدتهم. وهذه القاعدة، بحسب قانون البلديات، لا تزال فقط من أبناء البلدة أو المدينة وليس سكانها، بخلاف ما هي الحال عليه في كثير من دول العالم، حيث الانتخابات البلدية تتم بحسب الإقامة، فيما التشريعية تتم بحسب مكان الانتماء المحلي. رغم أن التطور الديمغرافي وحركة الانتقال والسكن داخل المدن والبلدات كبيرة في لبنان، إلا أن ملامح طروحات من هذا النوع رغم أهميتها لا تزال مرفوضة. علماً أن المقيمين يدفعون ضرائبهم البلدية حيث مكان سكنهم لا سجلاتهم، وبعض المرشحين اليوم لا يتعاملون معهم على المستوى ذاته من الخدمات باعتبار أنهم غير ناخبين ولا يؤثرون في حصيلة العملية الانتخابية.
بقدر ما تشكل الانتخابات النيابية همّاً للقوى السياسية بين الضغوط لإجرائها أو تأجيلها، فإن الانتخابات البلدية تمثل بالنسبة إلى المرشحين والعائلات هاجساً مضاعفاً بعد الكلام عن تأجيلها في ظل بقاء رؤساء بلديات في مقاعدهم رغم الخلافات وانفراط عقد مجالس بلدية واختيارية بالجملة، وتأجيل الانتخابات البلدية «الفرعية»، وتضاعف المشكلات البنيوية في المدن والبلدات. ومع تحسب القوى السياسية لتأثيرات الانتخابات البلدية على النيابية، وعلى عكس ما كان لوّح به رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في قصر بعبدا بعد تأليف الحكومة، فإن إجراء الانتخابات النيابية والبلدية سوياً، مع أنه عملي وسهل لوجستياً، لا يصبّ في صالح الأحزاب والسلطة بشكل عام. فهي تريد الاستثمار في هذه الانتخابات، بعد تفرغها من النيابية. ولا تريد حكماً إجراءها مبكراً كي لا ترث مشكلاتها وانعكاساتها السلبية العائلات لأنها تقليدياً انتخابات عائلية. وهنا يمكن الالتفات إلى إحدى المفارقات البارزة في المشهد الانتخابي.
فإذا كانت للقوى السياسية مصلحة في تأجيل الانتخابات البلدية أو حتى عدم إجرائها، فإن مجموعات «المجتمع المدني» التي تضغط وتستجلب مساعدات مالية كبيرة، وكبيرة جداً، من أطراف محلية وخارجية لتمويل حملاتها الانتخابية واللوحات الإعلانية، شاهدة على ذلك والحبل على الجرار، لم تتحرك مطلقاً للضغط لإجراء الانتخابات البلدية، أو حتى لتحديد موعد مبدئي لها. إذ إن من المحتمل ألّا تُجرى إذا تم إرجاء الانتخابات النيابية، أو بسبب ما قد تسفر عنه نتائج هذه الانتخابات ومنحاها السياسي. مع أن هذه الانتخابات شكلت بعد الحرب قاعدة أساسية لتحريك المجموعات الشبابية لتقديم نماذج مختلفة عن المسارات التقليدية لمفهوم العمل البلدي. وهو ما ساهم في إطلاق ورشة هذه الانتخابات للمرة الأولى، بعد الحرب عام 1998، علماً أن آخر انتخابات بلدية جرت في لبنان قبل الحرب كانت عام 1963. والأحزاب المعارضة، والمسيحية منها تحديداً، كانت أول من دعا وشارك بكثافة في هذه الانتخابات التي عُدّت حينها باكورة دخولهم العمل السياسي المباشر من باب البلديات، خلال الوجود السوري.
لذا كيف يمكن النظر إلى «الحروب» التي خيضت من أجل مقاعد نقابية، وتسجيل فوز في فروعها ومجالسها وقيادتها، وتحويلها انتصاراً ساحقاً على السلطة السياسية، ولا تتحرك هذه المجموعات للضغط من أجل إجراء انتخابات بلدية. فيما تزخر بيانات المجتمع المدني بخطب عن بديهيات إنمائية هي في صلب العمل البلدي في المدن الكبيرة والبلدات. فهذه المجموعات التي انطلقت بقوة بعد 17 تشرين واتخذت من عناوين جذابة شعارات لها، يفترض أن تولي العمل الإنمائي والبلدي الأولوية، وأن تعمل على تركيز اهتمامها عليه لما له من تأثيرات محلية أساسية، قبل أن تكون قاعدة للانطلاق منها إلى السياسة. لكن مشهد «المجتمع المدني» الحالي بات يشبه ماكينات السلطة والأحزاب في خوض غمار السياسة من باب المجلس النيابي، وكل الشعارات الإنمائية تبدو فارغة أمام تجاهل استحقاق يوازي بأهميته الانتخابات النيابية. رغم أن المجتمع الدولي، الغربي تحديداً، الذي يضغط ويساهم في تمويل وتعزيز خيارات «المجتمع المدني»، يعرف من تجاربه الخاصة معنى العمل البلدي وأهميته حتى في الإطار السياسي. لكن الاستثمار في المعركة النيابية يبدو اليوم أكثر حاجة وضرورة، ما يجعل القوى السياسية وأكثرية المجتمع المدني على المستوى نفسه.