ليس من ملهاة تبهر لا بل تبهج الجماهير اللبنانية وتشغلها عن ازماتها ومآسيها سوى «الجدل» المجدول على حبل من اللغو يطول ويطول الى حدود الهذيان، فالهوس اللبناني لا حدود له في المسائل التي تطغو على سطح الازمات السياسية والاقتصادية حتى تكاد تنسيه اوجاعه وبشاعة السلطة في بلد تعطلت جميع مؤسساته الدستورية، وبلغ الاهتراء في الادارة حداً لا تستطيع معه حل معضلة النفايات وروائح الصفقات، وكأننا في خضم دولة فاشلة متحللة عاث فيها الفساد والافساد وباتت مرتعاً لفنون «اللهط والشفط» (اللهم ابعد شرهم عن النفط) المرصود بعيون شرهة تحقيقاً وتجسيداً لكل ما هو مشترك بدءا بالعيش المشترك والزبالة المشتركة والنفط المشترك، وكل المشترعات المحاصصية والمغانم…
كل هذا الاحتضار المؤسساتي والاقتصادي لم يمنع استحضار ملهاة للبنانيين على اهميتها واندراجها في سياق احترام المواعيد والاستحقاقات اي الانتخابات البلدية والاختيارية في وقت انتهكت حرمة الانتخابات النيابية بالتمديد مرتين وقد تكون الثالثة ثابتة. ازاء ذلك شاعت لهجة الانتخابات البلدية شيوعاً سريعاً في الاوساط الشعبية طارحة علامات وتساؤلات حول الغاية من هذا الترويج المحموم من دون اية شكوك بنوايا وزير الداخلية نهاد المشنوق الجدي والرصين في ادائه كرجل دولة ينظر اليه باحترام من غالبية القوى السياسية على طرفي النزاع السياسي في البلد وبدأت القرى والبلدات في معظم المناطق اللبنانية غربلة الاسماء وتحضير اللوائح والزيارات وتسويق التحالفات واجراء الاتصالات على اكثر من صعيد وكأن الاستحقاق حاصل فعلا حتى ان بعض القوى السياسية تجهد لسد الثغرات وتسوية الخلافات داخل القرى وترميم الاشكالات داخل صفوفها وتوزيع جوائز الترضية وظائفيا وخدميا بغية رص الصف لملاقاة العملية الانتخابية اذا ماحصلت باكبر قدر من التماسك. وبالفعل اخذ الجدل الانتخابي او على الاقل بدأ يستحوذ على وقت الناس جلسات ونقاشات وحركة تواصل وكأن البلد في فردوس الاستقرار السياسي والاقتصادي متناسين خواء الامعاء وفراغ الجيوب. فهل الامر مقصود عن سابق تصور لتخفيف منسوب الحنق والغضب الشعبي مما هو سائد على كل المستويات كفسحة تنفس من حال الاختناق الاقتصادي والسياسي لمعرفة مسبقة من الطاقم السياسي الحاكم ان ابتلاء الشعب اللبناني بالجدل خير وسيلة لنسيان القضايا الحياتية وازمات البلد المستعصية.
مرجع سياسي قال: ان الشعوب التي تحترم استحقاقاتها الدستورية والمواعيد ذات الصلة بتداول السلطة جديرة بالاحترام غير اننا في لبنان كسرنا كل قواعد احترام المواعيد على شتى المستويات. فمن تأجيل للانتخابات النيابية لمرتين متتاليتين الى فراغ سدة الرئاسة منذ ما يزيد عن سنة ونصف الى العطالة الدائمة في السلطتين التشريعية والتنفيذية ليست الا دلالة صريحة وواضحة على ازمة النظام السياسي المتدحرجة منذ الاستقلال حتى اليوم من دون ان يستفيد اللبنانيون من دروس المحطات الصعبة كنتاج دائم ومتوارث لتلك الازمة ومن دون السعي لاجتراح الحلول او بالاحرى الحل الوحيد لاقتلاع هذا النظام من جذوره والدخول في عصر الدولة المدنية القائمة على المواطنة وسلطة القانون وتعزيز قيم الديموقراطية الحقة وتوسيع دائرة الشراكة في القرار السياسي بدل تحالف القوى الطائفية على تقاسم الحكم.
ويتابع المرجع: هذا الملف يكتنفه الغموض رغم الحراك الذي بدأنا نتلمسه في القرى والبلدات والذي يشتم منه اما تحضيرات تخوفا من المباغتة والاحراج الداهم كون المواعيد ضاغطة ولا تستطيع الحكومة على حالها المذري والمتهالك الا ان تتعامل مع المواعيد سواء اختتمت بانتخابات ام لا، غير ان القوة السياسية اللبنانية تنظر للاستحقاق بمناظير مختلفة، فالبعض يرى فيها فرصة لاشغال الناس عن مآسيهم والتخفيف من نظرة الازدراء للطبقة السياسية العاجزة عن حل ابسط المشاكل او تخفيف المعاناة الاقتصادية والبعض الاخر يتوسل الاستحقاق لاعادة توليف وتصليب قواعده المترهلة وبث روح الحماسة المتراجعة ناهيك عن البرودة في التجاوب مع متزعمي هذه القواعد. كما ان هناك من يرى في الاستحقاق بابا للشقاق في قواعده كونه يفجر النزاعات المحلية العائلية وغيرها مما يدخل الاحزاب في متاهة النزاع العائلي الذي يعتبر مقتلة الاحزاب ويضيف الى وضعها المترهل مزيدا من الترهل ودخول اطراف اخرى لملء الفراغات عبر ردات الفعل من هنا ومن هناك دون اغفال ان القوى السياسية السياسية بمعظمها تخشى من متغيرات بنيوية في قواعدها ما يفضح تلك القوى شعبيا ويظهر نكوصها وتراجعها تحت وطأة الثقة المفقودة والثراء الفاحش للطبقة السياسية لان السماء «لا تمطر ذهباً ولا فضة» والنعمة حلت على الكثيرين وهي على زيادة وتراكم والنقمة ايضا من الناخبين الذين بمعظمهم «نخبة» من الفقراء ومتوسطي الحال…».
ويتابع المرجع: ليست هناك اشكالية في اجراء الانتخابات البلدية في موعدها لكن يفضل اعادة تكوين السلطة اولا من خلال قانون انتخاب يسقط الهيمنة الطائفية الاحادية ويوسع الشراكة من خلال النسبية التي باتت «محط بغضاء» من القابضين على السلطة ويشعرون بمقصلة القانون النسبي للنفوذ ويهربون الى الامام دونما جدوى لان النسبية باتت ليس فقط مطلبا انما حاجة تغييرية بدلا من صنمية النظام الجامد على نكسات وازمات وانهيارات، وبالتالي فان اعادة تكوين السلطة بهذه الطريقة يخرج القوى الشعبية من الخوف والتبعية ويحرر القرى والبلدات من النفوذ السياسي لهذا الطرف او ذاك فتعود الحيوية المكتسبة من التغيير الفوقي لان الخيارات الشعبية راهنا ملتبسة ومرتهنة ومستلبة ومقيدة لا تعكس حقيقة المزاج العام كون تحرير السلطة بقانون النسبية يحرر القواعد الشعبية من الانتظام في هياكل سلطوية تابعة وهذا يدخلنا في نظرية السلة الكاملة التي يبقى دونها كل شيء منقوصاً وغير عادل».
ويختم المصدر: يصعب توصيف الجمهور اللبناني الذي هو كناية عن جماهير طوائفية بين جمهور مسكين او جمهور احمق ام الاثنين معاً فالشعب الذي يتأبط البطالة والهجرة والفقر لن يثور على سلطة تأتلف لحماية مصالحها ومن ابداعاتها الالهائية احترام الاستحقاق البلدي!!! فمتى تتحرك ابداعات الشعب الاقصائية احتراماً للذات…؟