IMLebanon

الانتخابات البلدية وحرائق المنطقة

سُدلت الستارة على الانتخابات البلدية في لبنان. اظهرت هذه الانتخابات التي كان الفصل الاخير منها في شمال لبنان الذي عاصمته طرابلس ان لبنان بلد يستأهل الحياة وانّ لدى شعبه كمّية من الحيوية تمكّنه من ممارسة اللعبة الديموقراطية. 

قبل كلّ شيء، بغض النظر عن نتائج الانتخابات التي اثبتت مقاومة اللبنانيين، حتّى في المناطق الشيعية، لنهج «المقاومة» و»الممانعة» وكلّ ما له علاقة من قريب او بعيد بالمزايدات، لا بدّ من الاعتراف بأنّ الانتخابات البلدية أزالت كلّ منطق يدعو الى تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان مفترضًا ان تجري البارحة قبل اليوم. اكثر من ذلك، بات إجراء الانتخابات النيابة المؤجلة منذ العام 2013 أمراً محتوماً. 

عكست الانتخابات البلدية مزاجاً متأصلًا في نفوس اللبنانيين. هناك رغبة واضحة داخل كل لبناني في رفض كلّ من له علاقة بذلك الشعار الكبير الفارغ الذي اسمه «المقاومة» و»الممانعة»، خصوصًا في بيروت وطرابلس وصيدا. لم تعد الشعارات تنطلي على أحد، لذلك لم تكن من حماسة شعبية في طرابلس للائحة تضمّ عناصر من المحسوبين على النظام السوري، بطريقة أو بأخرى.

طاول هذا التوجّه معظم المناطق المسيحية أيضًا. تبيّن ان هناك رفضا مسيحيا في العمق لكلّ ما يمثله النائب ميشال عون وتيّاره الذي يستخدمه «حزب الله» لتغطية عملية تستهدف منع انتخاب رئيس للجمهورية من جهة واعادة النظر في اتفاق الطائف من جهة اخرى. وهذا ما يفسّر الى حد كبير هذا الاحترام الشعبي لشخصيات وطنية مثل الوزير بطرس حرب. 

قال اللبنانيون كلمتهم. اكّدوا انّه لا تزال لديهم كلمة وانّهم يرفضون بشكل عام ان يكونوا ذلك القطيع الذي يسير وراء ما يقرّره الوليّ الفقيه في طهران. هناك، في المناسبة، نكتة ليس بعدها نكتة تتمثّل في شماتة وسائل الاعلام التابعة لـ»حزب الله» وامثاله بالرئيس سعد الحريري بعد صدور نتائج طرابلس. كلّ ما فعله سعد الحريري كان السعي الى جعل الانتخابات البلدية مناسبة لايجاد الطريقة الافضل لانماء المدينة وتطويرها. هل كان عليه الدخول في مزايدات سياسية ورفع سقف مطالبه السياسية كي يرضى «حزب الله» عنه؟ هل مطلوب من سعد الحريري تسييس الانتخابات البلدية الى ابعد حدود والمساهمة في تعميق الشرخ السنّي – الشيعي وإثارة كلّ الغرائز المذهبية كي يبعث اليه «حزب الله» برسالة امتنان؟

وضع سعد الحريري الانتخابات البلدية خلفه، كذلك فعل وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي عليه من الآن فصاعدًا الاعداد للانتخابات النيابية والعمل مع القوى السياسية على ازالة العقبات التي تضعها ايران، عن طريق «حزب الله» في وجه الانتخابات الرئاسية. 

كانت الانتخابات البلدية حدثا في غاية الاهمّية. كان النجاح الاوّل لوزارة الداخلية والاجهزة الامنية التي امّنت اجراء الانتخابات في هذه الظروف المعقّدة. السؤال الآن كيف العمل على ابقاء لبنان بعيداً عن حرائق المنطقة، خصوصاً عن الحريقين السوري والعراقي؟

لا شكّ أن هناك عوامل عدّة تعمل لمصلحة لبنان. في مقدّمها وجود هويّة وطنية حقيقية لدى معظم اللبنانيين. هذه الهويّة اللبنانية ظهرت بوضوح في مناسبات عدّة. لولا هذه الهويّة التي تفرض على كلّ القوى السياسية، خصوصا القوى الحزبية، اعادة النظر في حساباتها، لما كان الجيش السوري خرج من لبنان في العام 2005. كذلك، لولا هذه الهويّة اللبنانية لما كان لبنان لا يزال صامداً في وجه ما يجري في المنطقة وفي ظلّ كلّ المحاولات التي يبذلها «حزب لله» لجعله مجرّد مستعمرة ايرانية وتابع للمنظومة المذهبية التي تدار من طهران. هذه المنظومة التي تعبّر عن نفسها حالياً عبر ارتكابات الميليشيات المذهبية في سوريا والعراق، من دمشق الى حمص وحماة وحلب وادلب… وصولا الى بغداد والفلّوجة.

هناك حرب مذهبية في المنطقة تصرّ ايران على زج لبنان فيها. ذلك هو التحدي الاهم الذي يواجه اللبنانيين. كان مجرّد اجراء الانتخابات البلدية الحدث الاهم في سياق هذه الانتخابات التي راهن كثيرون على انّها لن تجري في مواعيدها. كان مهمّاً ظهور تيّار عام في البلد يعكس رغبة في التعلّق بثقافة الحياة. وهذا يعني في طبيعة الحال التصدي لثقافة الموت التي يسعى «حزب الله» الى فرضها، ان عبر سلاحه المذهبي غير الشرعي او عبر مشاركته في كلّ الحروب المذهبية في المنطقة، بما في ذلك الحرب التي يشنّها النظام الاقلّوي في سوريا على شعبه.

المهمّ ان لبنان اظهر مرّة اخرى ان في استطاعته الدفاع عن نفسه وانّه لم يستسلم بعد لا لايران ولا لغير ايران التي يتكشّف كلّ يوم انّها لم تتخل عن مشروعها التوسّعي المرتكز على اثارة الغرائز المذهبية في كلّ مكان تستطيع الوصول اليه. 

يبدو انّ على من لا يزال يراهن على تغيير في ايران الانتظار طويلًا، ذلك انّ لا شيء يشير الى الآن الى بداية تغيير في ضوء الانتخابات التي أُجريت أخيرًا في هذا البلد. فإيران التي لا تترك مناسبة الّا وتعبّر فيها عن ان لبنان مجرد جرم يدور في فلكها. بكلام اوضح، تعتبر ايران نفسها القوّة الاقليمية التي تستطيع ان تفعل ما تشاء حيثما تشاء، بما في ذلك التدخل المباشر في الفلّوجة… او منع انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان. هذا ما يفترض في اللبنانيين التفكير فيه مليًا من دون تجاهل الدروس التي يمكن استخلاصها من الانتخابات البلدية. عليهم باختصار شديد عدم اضاعة البوصلة والغرق في متاهات انتخابات لا يمكن في نهاية المطاف الّا وضعها في حجمها الحقيقي بغض النظر عن النتائج التي اسفرت عنها.