إنتهت الإنتخابات البلدية والإختيارية على خير وسلامة مظهرة للدول المراقِبة للوضع الداخلي بأنّ لبنان مرّر القطوع بنجاح بعيداً عن أي خلل أمني كانت تخشى منه. غير أنّ حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر بالنسبة لعدد كبير من السياسيين الذين اتكلوا الى جانب المال الإنتخابي على شعبيتهم من جهة، وعلى تحالفاتهم الداخلية والخارجية من جهة ثانية.
وبعد حسابات الربح والخسارة، تبيّن من خلال هذه الإنتخابات، على ما تقول أوساط ديبلوماسية مراقبة، أنّ أي طرف سياسي، مسيحياً كان أم مسلماً، لم يُحقّق انتصاراً ساحقاً فيها بمفرده، أي أنّها أظهرت الأحجام الحقيقية لكلّ طرف. كما بدا أنّ الناخبين اختاروا مرشّحي العائلات والطوائف وفضّلوهم على مرشّحي قادتهم. حتى أنّ بعض التحالفات، القديمة منها والحديثة، لم تؤدِ الى النتيجة المرجوة منها في صناديق الإقتراع. الأمر الذي يتطلّب من جميع القادة إعادة الحسابات والنظر الى الوعود المغدقة وغير المحقّقة.
فالمملكة العربية السعودية التي تدعم حلفاءها في الداخل، من أجل إعطاء الوزن لكلمة ممثلها من الطائفة السنيّة، فشلت في جعل «تيّار المستقبل» الوحيد الأوحد على الساحة السنيّة على ضوء قول الاوساط، لكنها في الوقت نفسه، نجحت من أجل الهدف نفسه، في إضعاف الكلمة المسيحية الموحّدة، إذ قامت بتوسيع دائرة الشرخ بين رئيس تكتّل التغيير والإصلاح النائب العماد ميشال عون وبين رئيس تيّار المردة النائب سليمان فرنجية، في حين كان الطرفان حليفين قويين يسعيان الى تمرير الإستحقاق الرئاسي لتلافي إدخال البلاد في الشغور ثمّ لاحقاً في العجز.
وصحيح أنّ الخلاف بين عون وفرنجية أدّى الى ورقة التفاهم بين الجنرال ورئيس القوّات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، وإن لم يُترجم في البلديات كافة، على ما ترى الاوساط، إلاّ أنّ موقف المسيحيين لم يقوَ كما يجب وكما هو مطلوب. فبقاء أطراف مسيحية عدّة مثل المردة والكتائب خارج التحالف المسيحي، واستبدال تحالف عون- فرنجية، بتفاهم عون- جعجع لم يوصل المسيحيين الى ما يريدونه من وحدة الموقف المسيحي لإعادة تعزيز دورهم وحضورهم في هذا البلد الذي كانوا أساس نشأته.
كذلك فإنّ «حزب الله» حقّق خلال هذه الإنتخابات الإنتصارات المعهودة وفي البلدات والقرى التي يسيطر عليها عادة، دون أن يُحدث أي خرق أو مفاجأة غير متوقّعة في أي من المناطق بحسب الاوساط الديبلوماسية، ما يعني أنّه اكتفى بما لديه، ولم يحاول الاستيلاء على ما هو للآخرين، بحسب الحسابات السياسية والطائفية. فيما فعل الأفرقاء الآخرون الشيء نفسه، مثل رئيس التكتّل الديموقراطي النائب وليد جنبلاط والوزير بطرس حرب والوزير السابق ميشال المرّ وسواهم.
ويمكن القول بأنّ الإنتخابات البلدية والإختيارية أسقطت أقنعة الجميع، على ما أضافت الأوساط نفسها، كما أسقطت الولاء بين الناخبين وقادتهم، لا سيما وأنّهم فضّلوا انتصار العائلات والأجباب، وحتى الطوائف، على انتصار الأحزاب والأفراد رغم كلّ الإصطفافات التي حصلت الى جانبها. وإن نجح البعض، مثل الوزير أشرف ريفي في طرابلس، فرغبة من الناخبين بالتغيير أو بتجربة الوعود الجديدة علّها تتحقّق هذه المرّة.
فهمروجة الإنتخابات البلدية والاختيارية التي شاء بعض الناخبين تسميتها بالعرس الوطني، أظهرت أيضاً سيطرة القوى الأمنية والعسكرية على امتداد أرض الوطن بقبضة من حديد، رغم وجود الإرهابيين في جرود عرسال، والغرباء من الجنسيات كافة في سائر المناطق والبلدات. وهذا الأمر يطمئن جدّاً بالنسبة للإنتخابات المقبلة، على ما نقلت الأوساط عن الدول الإقليمية والغربية والأوروبية التي راقبت العملية الإنتخابية.
في الوقت نفسه، ظهرت الحاجة الملّحة الى الإنماء لا سيما في القرى والبلدات كافة، بدءاً من بيروت، مروراً بكسروان وصولاً الى طرابلس والشمال والجنوب. وصحيح أنّ الناخبين انتخبوا «الإنماء» بالدرجة الأولى قبل السياسة والسياسيين، لكن عليهم متابعة ما سيتحقّق منه مع البلديات المنتخبة حديثاً، ويعملوا على معاقبتها ومحاسبتها بعد ستّ سنوات، في حال بقيت بلداتهم تفتقر الى المعايير المطلوبة للعيش بكرامة، ولم تُنفّذ المشاريع التي وعدتهم بها المجالس الجديدة.
فالأموال المخصّصة للبلديات وإن لم تكن كافية لتنفيذ جميع المشاريع، غير أنّه من شأنها التحسين من شؤون المواطنين، في حال تمّ صرفها من دون هدر أو محسوبيات. كذلك فإنّ متموّلين عدّة يُقدّمون لقراهم أكثر ممّا يأخذون منها تضيف الاوساط، وعلى المجالس البلدية مدّ يدها لهؤلاء بهدف التعاون على تحقيق الأفضل لها. علماً أنّ النزوح السوري يُشكّل أزمة فعلية في بعض المناطق حيث يقيمون الخيم على أراضٍ تعود للمواطنين ويمدّون الأسلاك الكهربائية وقساطر المياه وسوى ذلك، ما يخلق مشاكل بينهم وبين اصحاب الأرض. وعلى المجالس حلّ هذه المشكلة التي يعاني منها سكّان البلدات وفقاً لما ينصّ عليه القانون اللبناني.
وإذ شكّلت هذه الإنتخابات «بروفا» للإنتخابات النيابية المنتظرة إلاّ أنّ نتائجها قد لا تكون شبيهة بتلك، لأنّ القادة أنفسهم هم الذين يخوضونها هذه المرّة، ما يجعل المعارك تصل الى كسر العظم الفعلي. لكنّ الأرجحية باتت لتغيير الوجوه، على ما لفتت الاوساط، خصوصاً تلك التي كانت أسماؤها مسجّلة في مجلس النوّاب وتقبض رواتبها لكنّها غابت عنه، حتى قبل الشلل الأخير الحاصل على صعيد التشريع.
أمّا الكلام عن عودة المجلس النيابي نفسه، فقد لا يكون دقيقاً، على ما تعتقد الأوساط، لأنّ مزاج الشعب قد تبدّل خصوصاً مع تمديد المجلس لنفسه مرتين خلافاً لإرادته، وعدم قدرته رغم كلّ السنوات الماضية على الإتفاق على قانون جديد للإنتخاب يوصل ممثلي الشعب الفعليين الى الندوة البرلمانية، وانتظار مرور الوقت وفوات الأوان، لإجراء الإنتخابات وفق قوانين قديمة بالية تعود للعام 1960. الأمر الذي يُظهر عجز النوّاب عن القيام بإنجاز هذه المهمة، علماً أنّ اللجان النيابية تعمل في هذا الإطار، وثمّة 27 مشروعاً مرمياً في أدراج المجلس النيابي لا يتمّ الإفراج عنها لعدم التوافق السياسي بين القادة على أحدها.
في المقابل، تجد الأوساط ذاتها أنّه يكفي الإتفاق على إجراء الإنتخابات النيابية قبل الرئاسية من قبل جميع الأطراف في الداخل، والدول الحليفة في الخارج، لكي نبدأ بمشاهدة طرف خيط الحلّ بالنسبة للإستحقاق الرئاسي وكلّ ما يلحق به من ملفات مجمّدة قسراً بفعل عدم التوافق. فالتمسّك بانتخاب الرئيس دون تغيير المجلس الحالي، سيبقيه في حلقة مفرغة ما دام جميع الأطراف يتشبّث بموقفه كما بمرشّحه، إلاّ إذا حصل إيعاز خارجي ما بالتنازل والتوافق على مرشّح واحد قادر على الإمساك بزمام الأمور.