محبِطة هي حركة التحضيرات للانتخابات البلدية التي تشهدها المدن والقرى اللبنانية المختلفة، حيث تُدار المعارك الانتخابية وتطرح الأسماء للترشيح وتشكّل اللوائح بالذهنية القديمة نفسها: القبيلة، والعائلة، والمصالح الضيقة جداً. للمال والسلطة الكلمة الأولى والأخيرة فيها. أما المرأة فهي مجرد أرقام على لوائح الشطب تُحصى وتُحتسب من دون أن تُستشار، أو ترفع صوتاً أو حتى تومئ إيجاباً أو سلباً. وهي لا تترشح إلا نادراً، وفي ظروف تمثّل فيها رجل العائلة كثير الانشغالات، لتتحدث باسمه، وبصوته، وتنقل رغباته وآرائه «السديدة».
الذهنية القديمة التي تحكم الانتخابات البلدية المقبلة وتحضيراتها، أجهضت باكراً آمالاً في التغيير أطلقتها قوى المجتمع المدني والحراك الوطني، بعدما أثبتت الطبقة الحاكمة في لبنان، من أعلى الهرم إلى أسفله، فشلها في إدارة البلد وشؤونه، حتى في أبسط الأمور اللوجستية: النفايات وأزمتها المستفحلة منذ أشهر بلا حلول مع كلّ ما رافقها من فيروسات وأمراض وتظاهرات واحتجاجات وصفقات مشبوهة. تضاف إليها أزمة شغور مستديمة في الموقع الرئاسي الأول، وفشل في الاتفاق على مرشح توافقي داخلياً، من دون تدخلات خارجية، وحتى فشل في تأمين النصاب في جلسات مجلس النواب الـ ٣٤ التي عقدت لانتخاب رئيس، والمرشحة كي تكون ١٣٤ في ضوء الانقسامات الراهنة.
لقد راهن البعض، وأنا منهم، على أن تُفجّر الأزمات الأخيرة في الشعب اللبناني القلِقِ على صحّته وصحّة أولاده ومستقبله في وطن يحمل مصيره على كفّه، الإرادة والعزيمة على التغيير وخلط الأوراق، في أول استحقاق انتخابي، لإيصال وجوه شابة مثقفة ونزيهة إلى سدّة الحكم، ومحاسبة الطبقة الراهنة بإقصائها عن صناديق الاقتراع. لكن الرهان سقط، مع الأسف، أمام المحادل الحزبية والأمنية والعائلية التي أفرزتها تحالفات قديمة أو مستجدّة. وما أن انطلق العدّ العكسي للانتخابات البلدية، حتى نسي اللبنانيون، بسحر ساحر، كلّ ما عانوه ويعانونه مع أكوام الزبالة وجرذانها وثعابينها، والقمح الفاسد حتى السرطان، وغياب القرار السياسي اللبناني المستقلّ، والتبعية السياسية العمياء… وراحوا يبحثون عن تصويت مربح لمصالحهم وجيوبهم على المدى القريب، متناسين مصالح أولادهم في المستقبل البعيد. لم يتعلّم اللبنانيون بعد أن صندوق الاقتراع، في دول العالم المتحضر، هو لمحاسبة المسؤولين الذين يخشونه ويحسبون له ألف حساب. وليس لتجديد المبايعة والولاء الأعمى والصفقات الانتخابية المشبوهة، تحت الطاولة وفوقها، لمن باعوا الوطن بمن فيه ألف بيعة.
يقول الثائر تشي غيفارا: «من أجل بناء مجتمع جديد، لسنا بحاجة إلى دمى تهزّ رأسها موافقة على كلّ شيء. بل بحاجة إلى مناضلين نُشطاء لا يعملون من أجل مصالحهم الشخصية». لم يفت الأوان بعد كي نعيد التفكير في خياراتنا، ونعترض، ونرفض، ونُقصي، ونحاسب، ونبدّل أوراقنا المشفّرة… التغيير الحقيقي المزلزل يبدأ من أسفل الهرم. فهل نستفيق من سباتنا الطوعي؟