IMLebanon

الانتخابات البلدية في ميزان «النيابية»

لا جدال في أهمية إجراء أي استحقاق انتخابي، ولكن الانتخابات البلدية تكتسب أهمية مضافة عن أي انتخابات أخرى لكونها الوحيدة التي تجري على أساس وطني لا طائفي.

إن هذه «العينة» من الانتخابات تستدعي التقييم كي لا تبقى شواذاً، فإما أن تصيب بالعدوى الانتخابات الأخرى التي تتحكّم فيها الطائفية، وإما أن تُصاب هي بعدوى التطبيق كما في جميع الانتخابات الأخرى.

فاختراق الانتخابات البلدية الحاجز الطائفي المخيف، لم يكن جديداً، فهو معتمَد منذ صدور أول قانون لهذه الانتخابات بعد الاستقلال، ولم يكن ذلك صفة أو بفعل عدم تقدير المجلس النيابي لتداعيات إلغاء الطائفية في الانتخاب البلدي، كما لم يكن مجرّد «فورة في الدم الوطني» بقدر ما جاء التزاماً بسياسة ونهج رجال الاستقلال. ولذلك يمكن القول إن تقييم خروج الانتخابات البلدية عن المحاصصة الطائفية، أي تخطيها الحاجز الطائفي، لا يكمن في النظر إليها معزولة عن كل ما عداها من مفاهيم دولة الاستقلال، انما بالوقوف عندها كتجربة للمفاهيم التي خطط لها الاستقلاليون الأوائل الذين قالوا بالعيش المشترك والميثاق الوطني.

ففي المجلس النيابي الأول زمن الاستقلال ردّ المجلس مشروع قانون الانتخابات البلدية والاختيارية للحكومة لتعيده على أساس لا طائفي، وكان ذلك بطلب من رئيس الحكومة رياض الصلح. وفي المجلس الجديد، وتحديداً في 30 أيلول سنة 1947 ناقش المجلس «المشروع النظيف»، فقال رئيس الحكومة رجل الاستقلال: «فخور بالمشروع على هذه الصورة، إذ سيكون فاتحة عهد جديد سيتناول الانتخابات بصورة عامة، فالدستور بصورة خاصة، وبعد ذلك النفوس.. وأرجو أن يكون هذا القانون فاتحة عهد جديد للتجديد في هذا البلد». أما وزير الخارجية فيليب تقلا فقال: «إني أرى فتحاً جديداً بقضية إلغاء الطائفية في هذا القانون، واعتبر أن في تصويتنا عليه خطوة أولى في سبيل الإصلاح الذي لن يتمّ ما لم يتوارَ شبح الطائفية الذي لن يتوارى من النفوس ما لم يتوارَ من النصوص. نبدأ بإلغاء الطائفية في البلديات، ثم في الانتخابات النيابية، ومن ثم في الدستور…». وقد نشر رئيس الجمهورية بشارة الخوري المشروع الذي أقره المجلس بما قارب الإجماع فور إحالته إليه.

يتبين من هذه «الرسالة» التي تركها لنا رجال الاستقلال أن الربط بين انتخابات نيابية وعيش مشترك وغير ذلك من نصوص من جهة، والطائفية من جهة أخرى، يتعارض كلياً مع نظرة رجال الاستقلال الأوائل الذين هم أصدق من أي شخص آخر في توضيح ما ورد عنهم من مصطلحات ومفاهيم، الأمر الذي يفرض النظر إلى الانتخابات البلدية والاختيارية كخطوة على طريق إلغاء الأبعاد الطائفية من الاستحقاقات الانتخابية، وليس العكس الذي يؤشر للسير بالدولة بالمقلوب.

وتثبت التجارب العملية المتكررة أن تحرير الانتخابات البلدية والاختيارية من البعد الطائفي لم ينتج آثاراً سلبية غير عادية، ويبدو أن ما يحيط بأي انتخابات نيابية مثلاً يترافق دائماً مع تداعيات وأساليب سياسية وخروقات وأعمال شغب وغير ذلك، إذا لم تكن أدهى مما تشهده الانتخابات البلدية والاختيارية فإنها تتساوى معه، خصوصاً أن الشغب على أنواعه يبقى في الانتخابات البلدية محصوراً بنطاق جغرافي محدود جداً، بينما يمتد الشغب في الانتخابات الأخرى على مساحة الدائرة الانتخابية وفي بعض الحالات إلى ما هو أكثر اتساعاً من ذلك. فهل تقارب اللجان المعنية بقانون الانتخابات النيابية بين الانتخابَيْن؟

ومن اللافت أنه في الانتخابات البلدية تتجلّى في معظم البلدات التي يكون ناخبوها من طوائف متعدّدة تشكيل اللوائح المختلطة، بحيث تتمثل كلها في المجلس البلدي، وبالتالي تشكّل بدورها خطوة على طريق انتعاش الوطنية على حساب الطائفية، الوطنية التي يزدحم المنتسبون إليها بما يقدّمون لبعضهم من خدمات متبادلة.