عشية كل انتخابات بلدية كما كل انتخابات نقابية، تساق مقولة «النأي بالاستحقاق عن التسييس«. مقصد النأي في كل مرة يختلف، وكذلك وجهة الردّ عليه.
فالدعوة الى ابعاد السياسة عن الانتخابات البلدية تأخذ تارة لباس المجتمع الأهلي، أي «تركها« للعائلات، كما لو كان المجتمع الأهلي «ما تحت سياسي«، وتأخذ لباس المجتمع المدني تارة أخرى، أي «افساح المجال« لـ«الكفاءات«، كما لو كانت السياسة عارضاً يتسبب بإدخال الزغل الى النفوس، فلا تعود تسهّل مهمّة «الكفاءات«، وكما لو كانت كفاءات المجتمع المدني هذه «ما فوق سياسية«.
فكرة انتخابات لا دخل لها بالسياسة هي بحد ذاتها فكرة عبثية. اذ كيف يكون الاستحقاق ديموقراطياً، وكيف يجري الاصرار على اعتبار البلديات «ديموقراطية محلية« والمناداة بتوسيع صلاحياتها في ضوء ذلك، ان كانت السياسة في واد، والبلديات في واد آخر.
السياسة في كل مكان. انكار التسييس، أو النأي بالذات عنه، هو تسييس سلبي. قد يكون تسييساً سلبياً محتقناً عن وجه حق من أنماط متفشية من السياسة الغليظة، المُحبطة، الهستيرية، المُدمّرة، لكن ايجاد موطئ قدم لسياسة تراكمية، تفاعلية، تداولية، تحررية، لا يكون بدفن النعامة رأسها في الرمل، لا في رمل تصور الاستحقاق البلدي كاستحقاق فولكلوري، تختلق – سياسياً – لأجله العائلات الكبيرة من جديد (اذ يجري الكلام آخر أسبوعين كما لو كانت العائلات الكبيرة كيانات منتظمة تعقد دورياً مجالسها العشائرية على امتداد الجغرافيا اللبنانية، في حين أن العشائر نفسها بلغت درجة من الذرية أكثر بكثير مما تخفيه يافطتها)، ولا في رمل تصور الاستحقاق البلدي كاستحقاق «برمجة انمائية«، تطرح خلالها المنظمات غير الحكومية بضاعتها المترجمة غير المعنية، لعلّ وعسى تصيب بعض الناس بـ«توعية«.
في الانتخابات البلدية، كما في الانتخابات النقابية، ثمة مصالح طبقية وطائفية وجيليّة ومناطقية وجهوية متناقضة، ثمة معارضة وسلطة، ثمة أشخاص أقدر من أشخاص عن التعبير عن الفكرة نفسها، وثمة قبل كل شيء انعكاس وامتحان للتيارات السياسية الأساسية.
الانتخابات البلدية سياسية بامتياز، لكن سياسيتها مختلفة عن سياسية الانتخابات النيابية. ليس لأن البلدة هي وطن قائم بذاته، وهذه انتخاباته، بل العكس تماماً. لأن مآل المعركة في بلدية صغيرة يتجاوزها.
طبعاً، سياسية الانتخابات البلدية غير سوية في بلد يفصل فيه بين الانتخابات البلدية وبين مكان السكن، في وقت يتكثف أكثر سكانه في بيروت الكبرى، ويخوض كثير منهم على أرض بلديات يسددون لها الرسوم ولا يشاركون في اختيار مجالسها، معاركهم هم في انتخابات افتراضية لبلديات متخيلة يأتونها في الغالب للاصطياف أو قضاء العطل.
العمل البلدي في تقنيته ليس سياسياً فقط، وكذلك هو العمل النقابي، لكن أيضاً العمل التشريعي النيابي. كل عمل في أي مؤسسة، في أي سلطة، تقلّ سياسيته كلما زادت تقنيته. لكن هنا بيت القصيد أيضاً: من الخطأ دفع الجانب التقني الاداري لاستلاب العمل البلدي، أو النقابي، أو التشريعي البرلماني. السياسة هي الرئة، الرئة كي لا يستأثر الاختزال التقني الاداري المحض للأعمال بكل شيء. العلم السياسي هو في مكان أساسي منه النقيض للعلم الإداري، بخلاف الميل المتعاظم لاختزال هذا في ذاك، وقضم هذا بذاك، في اللغة الركيكة لعدد من المنظمات غير الحكومية.
أما أهم محك لسياسية الانتخابات، أي انتخابات، فهو ان المشارك بها ترشحاً، يفترض به أن يسعى للفوز، وأقل ما هو مطالب بتقديمه للناس هو تصوره لكيفية فوزه، وليس فقط ماذا سيفعل في حال الفوز. واذا كان لا يترشح من أجل الفوز، بل من أجل ايصال «فكرة« أو الوقوف بوجه «محدلة«، عندها لا يمكنه أن يقول ماذا سأفعل في حال فزت.