مع تمديد أمد الأزمة الإقتصادية في لبنان وعدم ولوج السلطة السياسية المركزية إلى الحلول الجذرية والإصلاحات المطلوبة، تُترك البلديات لمصيرها، محشورة في «فوهة المدفع»، كونها السلطة الأفعل والأفقر والأقرب إلى المواطنين وشؤونهم اليوميّة. أعباء وتحدّيات كبيرة تواجهها السلطة المحليّة، تدفع ثمن سياسات «الترقيع» الحكومي والهروب إلى الأمام بدل العودة إلى مكامن الخلّل البنيوي وكيفية معالجتها.
إذا كان موظّفو القطاع العام هم الأكثر تضرّراً، فإنّ الموظفين في البلديات هم الوجه الأصعب في هذه المحنة. وفي «جرعة مهدّئة»، أقرّ مجلس الوزراء بتاريخ 2023/4/18 منح تعويضات إضافية موقّتة وإستثائية لكل من يعمل في القطاع العام ويتقاضى أجراً من المال العام، وإعطاء زيادة توازي أربعة أضعاف الراتب الأساسي تضاف إلى الرواتب الثلاثة المقرّرة بموجب المادة 111 من موازنة العام 2022، وذلك اعتباراً من نهاية شهر أيار للعام 2023. فكيف ستواجه المجالس المحلية هذه المعضلة؟ وهل الزيادة حلّ موقّت أم طعنة الموت في جسدها المتهالك؟
العقيبة
في العقيبة (كسروان – الفتوح)، يرى رئيس بلديتها جوزيف الدكّاش أن «الزيادات غير مبنية على معايير وأسس علمية، كما أنّ القرار الحكومي لم يُحدّد سعر الصرف الذي على أساسه ستتم جباية الضرائب. كأنّ المقصود من هذا الغموض هو ترك كل بلديّة ان تتكل على تخمينها الذاتي للعقارات والأبنية السكنية». تُجيد العقيبة مواجهة الصعاب والمحن بفضل صمود أبنائها وحرص بلديتها على تسيير المرفق العام من جهة، وعدم تحميل مواطنيها أثقالاً إضافية من جهة أخرى.
في هذا الإطار يقول الدكّاش «إنّنا في كل سنة مع انتهاء العام الدارسي، نقوم بالجباية، وانتدبنا لهذه المهمّة لجنة مختصّة لدراسة القيمة التأجيرية للمؤسسات التجارية والسياحية. كما سنعمل على إعادة تخمين اللوحات الإعلانية وتراخيص البناء والعقارات التي كانت تدفع على سعر 1500 ليرة، التي لم تعد تكفي لتأمين رواتب الموظّفين الذين يبلغ عددهم 16 موظفاً بين 10 عناصر شرطة مع حرّاس ليليين و6 موظفين إداريين».
ورغم التقشّف الذي اعتمدته البلدية، إذ كان لديها 23 عامل نفايات، خُفّض العدد إلى 13 عاملاً بعد العقد مع شركة «رامكو»، ومع استفحال الأزمة، تقلّص إلى ثلاثة. كما أن التدابير الوقائية وتأمين السلامة العامّة فرضت نفسها علينا بعد تعرّض البلدة لسرقات عدّة، ما دفعنا إلى تأمين حراسة دائمة خصوصاً في الليل».
وعن الرواتب والأجور، أشار «الريّس» إلى أنّ «العامل الذي كان يتقاضى مليونين و500 ألف مع زيادة معاشين و98 ألف ليرة بدل نقل، سيرتفع مع قرار مجلس الوزراء إلى 17 مليون ليرة تقريباً إضافة إلى 450 ألفاً بدل نقل. أي حوالى 5 مليارات ليرة سنوياً، ما عدا مصاريف المحروقات والآليات التابعة للبلدية». في المقابل يشدّد الدكّاش على ضرورة تأمين مداخيل الموظّفين والعاملين، مع حرصه على عدم تكليف المكلّفين أو السكان أعباء إضافية، فالعقيبة لا تزال تُجبي 250 ألف ليرة سنوياً فقط على منازلها.
وعن شطّ العقيبة الرملي «الذهبي» المفتوح للعموم مجّاناً، والذي يشهد أنشطة رياضية متنوّعة، حيث تهتمّ البلدية في تنظيفه وتأهيله بالتعاون مع أصحاب المطاعم والشاليهات، لفت الدكّاش الى أن البلدية تسعى إلى تفاهمات مع المؤسسات السياحية الموجودة لتعديل كلفة الإستثمار السنوي (الذي كان مليون ليرة)، بطريقة تحفظ حقوقهم من جهة، وقدرة البلدية على الاستمرار بواجباتها والتزاماتها تجاههم».
قرطبا
أما في بلدة قرطبا (قضاء جبيل)، فيرى المحامي والمستشار القانوني لإتحاد بلديات جبيل إيلي بيروتي، أنّ «قرار الزيادات سيحُرف البلديات أكثر عن مهامها الأساسية أي الإنماء الذي بات شبه معدوم، إلى حصرها في كيفية تأمين رواتب الموظفين». واعتبر أنّ المناطق الجبلية التي تحوّلت قراها وبلداتها إلى أماكن اصطياف كقرطبا، مداخيلها قليلة جدّاً على عكس المناطق الساحلية التي فيها مصانع ومؤسسات تجارية كبيرة ومصارف وكثافة سكانية وعمرانية».
وأشار إلى أنّ زيادة القيمة التأجيرية 3 مرّات حسب القرار لا تكفي لتأمين رواتب الموظّفين الـ 12 لدى البلدية، حتى لو ضربناها 3 مرّات، إذ أن القيمة التأجيرية للمنازل تتراوح بين 60 و100 و200 ألف ليرة سنويّاً فقط. وتحتسب القيمة حسب مساحة البيت ونوعية البناء، إذا كان يحتوي على مصاعد مثلاً وأنظمة تدفئة وسخّانات وغيرها.
ويخضع التخمين العقاري إلى لجنة مؤلّفة من عضو بلدي وآخر من القائمقامية والمالية إضافة إلى خبير تخمين. وتختلف القيمة الفعلية التأجيرية بين السكن (6%) والتجاري (8%)، وهناك 1.5% على الأرصفة والمجارير التي تدخل ضمن الرسم البلدي. ويرى أنّ القيمة يجب أن تكون تصاعدية أي من كان يدفع 100 ألف ليرة لا يمكن أن نطلب منه أن يدفع مليون ليرة.
وقال: «نحن أمام معضلة حقيقية. أقل معاش للموظف بات 7 ملايين ليرة يزاد عليه بدلات النقل، إضافة إلى التعويضات المترتّبة. هذا الواقع سيؤدي إلى تفاقم العجز البلدي الذي يعاني أصلاً جرّاء هذه الأزمة الاقتصادية»، مردفاً: «في قرطبا لن تكفي الرواتب لأكثر من 4 أو 5 أشهر». يضيف: «في السابق كان الإتكال على الصندوق البلدي المستقل (آخر دفعة كانت في العام 2020)، كنا نستوفي بين 250 و300 مليون ليرة سنويّاً، ما يعادل وقتها 200 ألف دولار». وختم بيروتي مشدّداً على أن «الحلّ الحقيقي هو في تغيير قانون البلديات والذهاب نحو تطبيق اللامركزية الإدارية، الكفيلة في تأمين المداخيل وتمكين البلديات من تحقيق التنمية المستدامة. غير ذلك نحن في متاهة».
زحلة
أما بلدية زحلة فأشارت في بيان إلى أنه «وسط الغلاء الكبير الذي نعانيه، صارت نفقاتنا كبيرة جدّاً، سواء بكلفة المحروقات التي لم نعد قادرين على تحملها، أو على صعيد تضاعف كلفة النظافة، من كنس المدينة أو جمع النفايات ومعالجتها، وكلها تضاعفت أسعارها على المقاولين عشرات الأضعاف».
وأضاف: «نحن ندرس عمليّاً رفع رسوم القيم التأجيرية، وقد وضعنا خطة لذلك وأرسلناها إلى وزارة الداخلية لأننا لا نريد أن نتخذ أي إجراء من خارج التغطية القانونية. كما أننا نصر على العدالة بين المستأجرين، بحيث لا نكبد من استأجر شقّة حديثاً في مبنى مبلغاً يوازي عشرات الأضعاف ما يدفعه جاره المستأجر القديم في الطابق نفسه». وأوضح أن «معدّل مجموع الرسوم التأجيرية التي تدفع اليوم في زحلة إذا قسّمت على عدد الوحدات السكنية والتجارية والصناعية يبلغ بين 60 و70 ألف ليرة، بينما كلفة كنس وجمع ومعالجة النفايات على الوحدة السكنية تصل إلى 57 دولاراً. نحن لسنا بصدد رفع القيمة التأجيرية إلى هذا المستوى ولكننا نريد أن نحافظ على المدينة نظيفة وعلى تأمين الخدمات البديهية وإبقاء البلدية مفتوحة لخدمة الناس، مع الحفاظ على رواتب الموظفين. ولذلك فإن العمل البلدي سيكون محصوراً بتأمين متطلبات نظافة المدينة ورواتب الموظفين».