زيادات وصلت إلى 20 و60 ضعفاً… ومشروعا قانونين “بلديّان” يعالجان الخلل
«Menu» الرسوم البلدية طويل ومتنوّع. القيمة التأجيرية والأملاك العمومية. اللوحات الإعلانية والمؤسسات المصنَّفة. المجاري والأرصفة وسائر الأماكن العامة. وغيرها طبعاً. هي رسوم بتسميات مختلفة. لكنها تتوحّد لناحية إيلام المواطن بزيادات صادمة فُرضت عليه هذا العام من قِبَل البلديات. مع ملاحظتين هامّتين: البلديات تعاني، بينما العشوائية والتفاوت في فرض الرسوم سيّدا الموقف.
هناك في بيت مري، مثلاً، رفعت البلدية الرسوم السكنية ثمانية أضعاف ما كانت عليه العام الماضي وتلك التجارية ستة عشر ضعفاً. أما بلدية الدكوانة، فسجّلت رقماً قياسياً بِرفع رسومها السكنية 20 ضعفاً والتجارية 60 ضعفاً. في حين أن بلديات أخرى تراوحت نسبة الزيادة فيها ما بين 10 أضعاف للرسوم السكنية و30 ضعفاً لتلك التجارية وبعضها،كبلدية أدما، إكتفت بزيادة ثلاثة أضعاف على سوم العام الفائت. مع العلم أن ثمة بلديات لم تَحسم قرارها بعد، على غرار بلدية بيروت. تفلُّت وتفاوُت ملحوظان في ظلّ تقاعس المجلس النيابي عن إصدار أي تعديل قانوني واضح يضع حدّاً للفوضى الحاصلة. غير أن هناك مشروعَي قانونين يُدرسان على نار حامية علّهما يحقّقان تَقدُّماً ما في تحسين أوضاع البلديات، من جهة، والحدّ من الأعباء الملقاة على كاهل المواطن، من جهة أخرى. وربما يكون في ذلك – نقول ربما – تأسيس لإرساء اللامركزية الإدارية المنشودة، بحسب مراقبين.
القانون غائب أو مغيَّب؟
نائب رئيس مجلس بيروت البلدي، المهندس إيلي أندريا، يشير في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن الرسوم والعلاوات البلدية أقرّها القانون رقم 60/88 الصادر في آب 1988، وأن القانون لا يُعدَّل إلا بآخَر. من هنا تأتي حالة الضياع غير المسبوق التي تشهدها البلديات من حيث تحديد قيمة الرسوم، لا سيّما وأن لكل بلدية الصلاحية المطلقة في وضع الرسوم التي تناسبها وتكفل تأمين مصاريفها. لكن هل ستؤدّي هذه الفوضى إلى تفلُّت في الرسوم؟ «لو اجتمع المجلس النيابي وقام بتعديلها لكانت الأرقام توحّدت بين جميع البلديات. لكن غياب القانون سمح لكل بلدية بأخذ الأمور على عاتقها ما سيؤدّي حتماً إلى تفاوت بين بلدية وأخرى»، كما يجيب أندريا.
من ناحيته، تقدّم محافظ بيروت، القاضي مروان عبود، منذ شهر تقريباً بطلب رأي استشاري من ديوان المحاسبة من أجل إيجاد حلّ ينصف المواطن كما البلدية. وقد أصدر الديوان قراراً بجواز إعادة البلديات النظر بالرسوم لتتلاءم مع التدنّي الحاصل في قيمة العملة ومع القيمة الفعلية للعقار وحاجات البلدية. «ها نحن بانتظار انتهاء إدارة البلدية من درس المعطيات واقتراح الحلول قبل تحديد الرسوم خصوصاً وأننا على بُعد أسابيع من فصل الشتاء ما يستلزم تنظيف مجاري المياه تفادياً لطوفانها على الطرقات… فتحصيل الرسوم البلدية ضرورة قصوى»، يضيف أندريا. مع الإشارة إلى أن استيفاء الرسوم، بعد انتهاء الإدارة من دراسة الآلية وتحديد المبالغ، سيبدأ كمرحلة أولى من المطاعم والمحال التجارية التي تتقاضى بالدولار، في حين أن الاستيفاء من المواطنين العاديين سيُترك لمرحلة ثانية تفهّماً للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها.
بلديات بالحدّ الأدنى
نعود إلى بيت مري حيث يخبرنا رئيس البلدية، المحامي روي أبو شديد، أن موازنة بلديته بلغت 3 مليارات و700 مليون ليرة قبل ثورة تشرين – أي ما يقارب مليونين ونصف المليون دولار. أما حالياً، وبالرغم من الزيادات التي فُرضت على الرسوم، فهي لم تتخطَّ 24 مليار ليرة، ما يوازي 250 ألف دولار تقريباً على سعر صرف السوق السوداء – أي عُشر ما كانت عليه. ويتساءل أبو شديد في هذا السياق: «كيف عسانا نستمر في تقديم الخدمات بحدّها الأدنى، كمعالجة الصرف الصحي والنفايات والحراسة وتنظيم السير، إضافة إلى تسديد الرواتب والتعويضات ومصاريف الطبابة والمحروقات وغيرها، إن لم نقم بإعادة النظر بقيمة الرسوم لتتناسب مع القيمة الفعلية للقيمة التأجيرية والتي كانت منخفضة منذ الأساس كون التخمينات بغالبيتها قديمة؟».
وعن سؤال حول كيفية تحديد الرسوم في ظلّ غياب الرقابة والضوابط، لفت إلى أن المجلس البلدي هو من يحدّدها استناداً إلى دراسة موضوعية وقرارات لجنة التخمين. فكلما سدّد المواطن رسوماً أقرب إلى المنطق والواقع، كلما كانت قيمة الخدمات المقدَّمة له متناسقة مع الرسم المسدَّد. «نعلم أن المواطن هو الحلقة الأضعف الذي عليه تَكبُّد الزيادات دوماً، لكن بين بلدية تقدّم له الحدّ الأدنى من الخدمات وبين العدم، أيهما يختار؟ نحن نشعر بظروف المواطن ونوفّر له خدمة التقسيط في الدفع، لكنني أرى أن كل رئيس بلدية لا يقوم بواجبه لناحية تحصيل واردات البلدية يُعتبر شريكاً في هدر المال العام وشحّ صندوق البلدية»، يختم أبو شديد.
مشروعا قانونين واعدان
بين مطرقة تحصيل الرسوم الضرورية لإدامة العمل البلدي وسندان فوضى الأسعار وضحيّتها المواطن، نتوجّه إلى الخبير في الحوكمة المحلية وممثّل المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية في لبنان، الدكتور أندره سليمان. ويتحدّث لـ»نداء الوطن» عن مشروعَي القانونين اللذين قدّمتهما المنظمة مؤخراً على ضوء الأزمة الاقتصادية الراهنة والتي أدّت إلى وقوع البلديات والقطاع العام في خندق العجز عن توفير الخدمات العامة. «الهدف من هذين المشروعين هو معالجة التحديات تلك من خلال تعزيز الموارد المالية للبلديات كي تتمكن من توفير المستوى المقبول من الخدمات للمواطنين دون الاصطدام بقيود إدارية ومالية»، بحسب سليمان.
مشروع القانون الأول يتناول الرسوم والعائدات البلدية التي نص عليها القانون رقم 60/88 والذي لم يتمّ تعديله منذ إقراره في العام 1988. وبسبب الحاجة الملحّة لإعادة النظر فيه، قامت المنظمة بإدخال بعض التحسينات عليه إن من حيث معدلات الرسوم أو كيفية احتسابها. «ألغينا الرسوم غير المجدية والتي مرّ عليها الزمن وركّزنا على تلك المجدية، فقمنا بتفعيلها كي تتناسب مع الخدمات المطلوبة الآن من البلديات. بمعنى آخر، سَعَينا للتوفيق بين المواطن الذي يحتاج إلى الخدمات وبين البلدية التي تعوزها الموارد».
أما مشروع القانون الثاني، فيتعلّق بإجراءات تحصيل الرسوم البلدية وهي إدارية بيروقراطية وليست بحاجة إلى وفاق سياسي. ذلك بعكس مشروع القانون الأول الذي يتطلّب نقاشاً سياسياً في مجلس النواب وإبداء الملاحظات مع احتمال الاعتراض عليه. وبالنسبة للتحصيل، فقد وضعت المنظمة إجراءات جديدة عصرية تراعي مبادئ الإدارة العصرية السليمة، ما من شأنه تفعيل الإدارة المالية في البلديات وتسهيل العمل داخلها ضمن الموارد المتوفرة.
منعاً للعشوائية
نستفسر أكثر عن حيثيّات مشروعَي القانونين، فيفيدنا سليمان بأنه جرى وضعهما بالتنسيق مع كافة البلديات في لبنان، مضيفاً: «أجرينا مقابلات وورش عمل تشاورية مع رؤساء البلديات، وتواصلنا مع النواب ومع قضاة إداريين متخصّصين بالعمل البلدي، فكانت النتيجة ترجمة ملاحظاتهم إلى نص مشروعَي قانونين. وبعد إعداد المشروعين، قمنا بجولات على الكتل النيابية المختلفة بين شهرَي أيار وحزيران الماضيَين، وسلّمنا نسخاً منهما إلى المجلس النيابي والكتل الرئيسية. كما حرصنا على إطلاعهم على الأسباب الموجبة للقانونين وأهمية مناقشتهما وإقرارهما، وقد لمسنا تجاوباً كبيراً من قِبَل البلديات».
ماذا عن الخطوات اللاحقة؟ يجيب سليمان بأنه سيجري تنظيم حلقات حوارية مع النواب والبلديات إقراراً للمشروعين كي يسلكا طريق التنفيذ، ذلك أنهما يصبّان في مصلحة المواطن الذي سيحصل على الخدمات المطلوبة، من جهة، والبلديات التي ستستفيد من سندٍ قانوني يساعدها في حسن تسيير الإدارة الفعّالة وتعزيز مواردها، من جهة ثانية. وهذا سيضمن الحدّ من عشوائية الرسوم البلدية الناتجة عن تدنّي سعر الصرف. «يمكن أن نتفهم لماذا قام رؤساء بعض البلديات بتخمينات مختلفة تماماً انطلاقاً من واجب الاستمرارية، لكننا أوضحنا، في مشروع قانون الرسوم والعائدات، أصول التخمين والأسُس التي يجب اعتمادها مع إضافة هامش صغير لكل بلدية، ما يمنح إطاراً شرعياً وقانونياً للتخمينات وتطويق منطق الاستنسابية بين البلديات»، بحسب سليمان.
… وتمهيداً للّامركزية
ومن بوابة الرسوم وتحصيلها إلى عالَم اللامركزية الإدارية. فقد رأى سليمان أن تفعيل العمل البلدي يساهم أيضاً في تعزيز حظوظ اللامركزية الإدارية، المرتبطة بدورها حكماً باللامركزية المالية. فلا إدارة من دون مال كما يصرّ كثيرون. وإذا كانت اللامركزية الإدارية نوعاً من التنظيم الإداري للدولة الموحّدة يقوم على نقل صلاحيات إدارية من المركز إلى وحدات محلية منتخَبة مباشرة من الشعب وتتمتع بالاستقلالين الإداري والمالي، ما هي إمكانية وعوائق تطبيقها في الوقت الراهن؟ «اللامركزية عنوان سياسي عريض يُثار في لبنان منذ التسعينات، غير أن الأفعال كانت تشير دوماً إلى توجهات مركزية. فقد تمّ تعليق الكثير من مشاريع القوانين ذات الصلة مذّاك إلى أن قدّم وزير الداخلية السابق، زياد بارود، على رأس لجنة خبراء، مشروع قانون في العام 2014. لكن الأخير يراوح منذ تشرين الأول 2019 رغم توافر البحث والدعم القانوني لإقراره. ويعود ذلك إلى عدّة إشكاليات أبرزها شكل التقسيمات الإدارية، عدم التوافق على وضع بلدية بيروت، المطالبة بلامركزية إدارية غير مالية، وهو أمر مرفوض لأن اللامركزية الإدارية هي أيضاً لامركزية مالية وضريبية»، من وجهة نظر سليمان.
أصحاب هذه النظرية يعلّلون رأيهم بأن الاستقلالية الإدارية للبلديات يجب أن تترافق مع استقلالية مالية وضريبية تمكّنها من تطبيق وتنفيذ صلاحياتها من حيث جباية الرسوم من المواطن مباشرة. وما تفكيك هذه الاسقلالية الثلاثية الأبعاد سوى إحدى البدع اللبنانية، بحسب سليمان، الذي توقّع أن تُجابَه اللامركزية بمقاوَمة شرسة من قِبَل السياسيين. «فقد تؤدّي إلى نشوء وبروز نُخب جديدة منتخَبة في المناطق وتقوم بمشاريع وتوفّر خدمات، ما يهدّد مفهوم الزبائنية ونفوذ بعض الزعماء. هذا إضافة إلى أن القدرة على الاستيلاء على الموارد والثروات الوطنية تتراجع حين تتوزّع الأخيرة على المناطق بعد أن كانت محصورة مركزياً في بعض الوزارات».
هناك أمل بأن يمهّد مشروعا القانونين الطريق أمام تحقيق اللامركزية وحصول خرقٍ ما. إلّا أنها تبدو للناظر حُلماً بعيد المنال، أقلّه لغياب التوافق السياسي على تحقيقها. وإلى أن يتوافق السياسيون – وفي ذلك ضربٌ لمصالح كثيرين منهم – عليك أيها المواطن التسديد ثم التسديد.