كان من المفترض أن يعقد رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع مؤتمراً صحافياً مشترَكاً عقبَ الانتهاء من الاستحقاق البلدي لإعلان الحصاد الذي تحقّقَ من منظار سياسيّ، والتأسيس عليه لطرح تصوّرهما السياسي للمرحلة المقبلة، خصوصاً لناحيتين أساسيتين: رئاسة الجمهورية والاستحقاق النيابي المرتقَب.
كلّ ذلك جرى وضعُه جانباً، ولو أنّه لن يعني أبداً أيّ تعديل أو فرملة للاندفاعة في اتجاه رئاسة الجمهورية.
العبَر والدروس السياسية المستقاة من الاستحقاق البلدي كثيرة وعديدة وبليغة، وبعيداً عن التسابق الإعلامي في تعداد البلديات «الساقطة عسكرياً» في يد هذا الحزب أو ذاك، و«نفخ» الأحجام لدرجة الانتفاخ من خلال إضافة مخاتير وإلحاقهم بلوائح الفوز، إلّا أنّ ثمّة نتيجة سياسية أساسية لا يمكن تجاهلها.
فعقبَ اتّفاق معراب ولقاء المصالحة التاريخي بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، ساد مناخٌ عام في الوسط المسيحي بأنّ محدلة «التيار الوطني الحرّ» و»القوات اللبنانية» قادرة على الانتصار على الجميع، وما مِن قوّة أخرى تستطيع الوقوفَ في وجهها. وتولّت الدعاية الحزبية تسويقَ هذه النظرية بنجاح من خلال نسبة الـ 86 في المئة.
قبلَ ذلك كان الخلاف بين جعجع والرئيس سعد الحريري أخَذ مسلكاً تصاعدياً حتى وصَل إلى الذروة مع ترشيح رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية إلى الرئاسة من دون الوقوف مسبَقاً على ضرورة موافقة «القوات».
أساس الخلاف التصاعدي تَركّز على إصرار جعجع على أن يكون صاحب القرار الوحيد في الساحة المسيحية في فريق «14 آذار».
بدأ الخلاف صامتاً مع تشكيل لوائح الانتخابات النيابية منذ سبع سنوات، ثمّ أخذ طريقَه رويداً رويداً إلى العلن حين بدأ جعجع بمهاجمة بعض الشخصيات المسيحية المنضوية في فريق «14 آذار»، مِثل الوزير بطرس حرب ونائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري والنائب هادي حبيش، وخلال ذلك حصَلت أزمة تأييد «القوات» لمشروع قانون «اللقاء الأرثوذكسي» ومن ثمّ العودة عنه بعد اتّفاق سرّي مع تيار «المستقبل» على حصّة أوسع وأكبر في اللوائح النيابية تصل إلى تسعة. إضافةً إلى أزمة الحوار بين الحريري وعون حول رئاسة الجمهورية.
وبدا أنّ جعجع كان يبحث عن خيار بديل في اللحظة المناسبة والتي جاءت مع ترشيح «المستقبل» لفرنجية، «عدوّ الكار»، لجعجع في منطقة الشمال والتي يعتبرها الأخير بمثابة الخزّان البشري لقواعده الشعبية.
ومع تقاطُع المصالح بين عون الساعي إلى الرئاسة وجعجع الساعي إلى التحرّر من الحريري والإمساك بالأرض، وُلد اتّفاق معراب. ولا جدالَ بأنّ القوى المسيحية الحزبية إضافةً إلى الشخصيات والقوى المحلّية وقَعت تحت هيبة اتّفاق الحزبين الكبيرين. وجاءت مناسبة الاستحقاق البلدي بمثابة الحلبة المناسبة لترجمة هذا المفهوم، وهنا كان الخطأ.
ففي بداية التحضير لمعركة البلديات، ظهرَت «هيبة» اتّفاق معراب جليّة. كانت القوى المختلفة تتسابق على نَيل جانب من التفاهم لإنقاذ وضعِها في مناطقها. وعلى سبيل المثال فإنّ رئيس بلدية جبيل زياد حواط كان متردّداً في كيفية التعامل مع الثنائية الحزبية.
لكن مع الوقت بدا أنّ الشارع المسيحي الذي هلّل للمصالحة كمصالحة، كانت له في الوقت نفسه خيارات أخرى. فهو لم يهضم سلوكاً متأرجحاً للحزبَين وانقلابَ الخطاب السياسي ورفعَ شعارات مختلفة إذا لم تكن مناقضة، ومعه ضاع الشارع مع إعلان وفاة انقسام «8 و14 آذار»، وهو الذي اعتاد طوال 11 عاماً على بناء نظريات سياسية واستراتيجيات عريضة وخوض صراعات وفقها.
ومع سقوط هيكل الأحزاب الذي واكبَ صعود مرحلة ما بعد العام 2005، انتقلَ جزء أساسي من الشارع المسيحي في بحثه عن خيارات أخرى. وهو لذلك عبّر إحجاماً عن المشاركة في مناطق واقتراعاً معاكساً في مناطق أخرى وكأنّه يقول إنّه يحتاج لخيارات سياسية جديدة.
من هنا، فإنّ أبرز النتائج السياسية للانتخابات البلدية كانت بسقوط هالة اتّفاق معراب. وبخلاف ما برّره البعض بأنّ قصَر المدة الزمنية الفاصلة بين إعلان اتّفاق معراب والانتخابات البلدية كان سلبياً لإتمام اللحمة بين ساحتَي الحزبين وأنّ مزيداً من الوقت سيَدفع إيجاباً في هذا الاتجاه، لكنّ الحقيقة أنّ عاملَ الوقت سيشكّل عاملاً سلبياً وسيَدفع لتآكلِ المفاعيل السياسية شعبياً واندثار رهبة الاتفاق نهائياً على المستوى الشعبي، وهذا ما أظهرَته الانتخابات على الأقلّ.
ذلك أنّ القوى المختلفة ستتجرّأ أكثر فأكثر على التمايز والاختلاف والخروج عن الطاعة. ولا خلافَ بأنّ الانتخابات البلدية أدّت إلى خسارة شاملة لهيبة كلّ الأحزاب اللبنانية على مختلف الساحات ولو بنسَبٍ متفاوتة.
ولا خلافَ أيضاً بأنّ تيار «المستقبل» كان أكثرَ المتضرّرين، يَليه «التيار» و«القوات»، ثمّ الثنائي الشيعي، فالنائب وليد جنبلاط. لكنّ المفارقة أنّ تيار «المستقبل» الذي شهد زلزال طرابلس ولامبالاة بيروت يتحضّر للدخول في ورشة إصلاح وإعادة قراءة وسياسة داخلية جديدة ستُشرف عليها من بعيد السعودية تحضيراً للانتخابات النيابية، وهو استحقاق يتجاوز التناقضات الداخلية ويرسم توازنات مجلس النواب أو البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني.
والثنائي الشيعي قادر على إعادةِ لمِّ ساحته، خصوصاً أن لا وجود حقيقياً لقوى أو شخصيات سياسية خارج «حزب الله» وحركة «أمل». والقاعدة التاريخية للدروز كفيلة بإعادة ترتيب قوّة جنبلاط.
أمّا عند المسيحيين، فالوضع مختلف، حيث هناك وجود حقيقي وفعلي للرأي العام الذي يتأثّر ويحاسب إذا لم يقتنع، وهو ما تُبرزه دروس البلديات.
لكنّ اللافت كان الدور الذي لعبَه العميد شامل روكز مدشّناً من خلاله دخوله إلى عالم السياسة انطلاقاً من جونيه وكسروان وتمدّده إلى جبيل من خلال رئاسة اتّحاد البلديات. دورٌ قد لا يستسيغه كثيرون وفي طليعتِهم «القوات اللبنانية».
فتكفي الإشارة إلى موقف جعجع من وصول روكز إلى قيادة الجيش أو حتى التمديد له، في مقابل محافظة روكز على مسافة بعيدة من اتّفاق معراب. ربّما حملت معركة بلدية جونيه في أحد جوانبها مواجهة «القوات» لدخول روكز إلى جبل لبنان من بوّابة كسروان… لكن يبدو أنّ ما كتِب قد كتِب.